وصلنا في العالم العربي قبل سنوات من الآن إلى مرحلة من الضبابية السياسية والاجتماعية التي تتأكد وتعلن عن نفسها وتتضح شدة ضبابيتها كل يوم بصورة أكبر، لكننا لا نزال نتعلق بافتراضات الماضي والتعبئة التي تأسست بناء عليها هياكل الدولة الوطنية الشكلية التي فشلت في بناء مضامين ترسخ وتطور وجودها.
ومع السقوط الواضح والمعاش للمفاهيم والتطبيقات التقليدية للدولة والهوية الوطنية لمرحلة ما بعد الاستعمار، لا بد من الاعتراف أن ما نراه ونعيشه اليوم في الجمهوريات العربية يمثل نتيجة حتمية لمسار طويل من الهشاشة البنيوية التي رافقت التأسيس حتى أوصلتنا إلى مرحلة الانهيار في معظم الدول وما قبل الانهيار بقليل في دول أخرى تحميها الحاجة لاستمرار دورها الوظيفي الذي يوفر لها بعض الحماية غير المضمونة أو المالكة لشروط الاستمرار.
تأسست مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار على أسس هشة وشعارات براقة لم تترجم إلى واقع ملموس، بل كانت تجلياتها في معظم النماذج ذات الصوت العالي في الخطاب القومي كارثية، وذلك ما حدث في العراق وسوريا وليبيا ثم السودان واليمن، حيث سقطت أفكار البعث والوحدة والأممية والوطنية والإسلاموية وانكشفت المجتمعات على المسرح الخالي من السياسة والحرية والتنمية، وبدلاً من بناء دول حقيقية تعلي من شأن المواطنة والمؤسسات، شهدنا تكريساً لأنظمة حكم استبدادية متخلفة تحولت مع الوقت إلى كيانات فاشلة عاجزة عن تلبية احتياجات مواطنيها الأساسية، ومهدت للارتكاس إلى مرحلة نمو الطائفية والقبائلية والحروب الأهلية وتأجير الولاءات وفتح البلدان أمام التدخلات الخارجية والحروب بالوكالة لصالح كل من إيران وتركيا والصناديق السيادية التابعة لدول تستخدم فوائضها المالية لممارسة العبث والتسلية بمصائر الشعوب عبر تمزيقها وإطالة أمد مرحلة الفوضى فيها.
ما كنا نعتقد أنها ثوابت تندرج ضمنها الحدود الجغرافية والأعلام والهويات الوطنية واتفاقيات السلام مع الدولة العبرية، جميعها أصبحت في خبر كان، واليوم تكشف الأحداث المتسارعة عن الطبيعة الهشة لكل ما تم البناء او التعويل عليه، واتضح أن التحديات أقوى والتهديدات أقسى والاحتمالات السيئة أقرب إلى التحقق من الاستبعاد.
كل هذه الحروب والصراعات الداخلية التي يصاحبها الفساد المستشري وضعف التنمية الاقتصادية واحتقار الإنسان الفرد والانتقاص من أهمية تلبية احتياجاته الأساسية في الحياة الطبيعية، أسهمت بالتوازي مع انتكاس المشهد السياسي في الغرب وبروز اليمين المتعصب في المزيد من التدهور في اتجاه التقليل من قيمة الإنسان في عالمنا، حيث تحول إلى رقم في مؤشر تعداد الضحايا، وإلى صور تليفزيونية كارثية تشبه سيناريو يوم القيامة. وبلغنا مرحلة أشد قسوة في الفوضى والتلويح بتهديد ما تبقى من استقرار في منطقتنا عندما جمع الغرب بين استنهاض الروح الاستعمارية واستلهامه للخرافات التي يؤمن بها المتطرفون في كنائس أمريكا ومعابدها. ومع وصول ترامب من جديد لرئاسة الولايات المتحدة أصبح اللعب “على المكشوف” فمن يقود أكبر اقتصاد عالمي هو أحد السماسرة الكبار الذي واجه الإفلاس أكثر من مرة، لذلك يحصن نفسه بالجشع والقرارت الاقتصادية التي تقضي على الجميع على أمل أن ينجو وبلده قريبا من كل التحديات. ومن الجيد أن كل هذا يحدث لأنه يجبرنا على التساؤل من جديد من نحن وماذا نريد وكيف يمكن أن يكون لنا حضورنا المستحق بأقل قدر من الأوهام والأخطاء والشعارات الخادعة.
ما من جواب شافي حتى الآن للتساؤلات المركزية التي تواجه الإنسان العربي في ظل هذا الواقع المتداعي، إلا أن العودة إلى الذات تفرض نفسها من بوابة السلوك والتفكير الحمائي الطبيعي. وأقصد العودة إلى الوجود الفردي المستقل عن الانتماءات التقليدية، بحثا عن السلام الداخلي والطمأنينة التي تتيح للجميع التفكير بصفاء بشأن المستقبل الذي لم يعد يحتمل اجترار أنماط التفكير السابقة.
لذلك أقول بصوت عال استحضروا أنفسكم منذ الآن في الحياة بوصفكم أفرادا تمثلون وجودكم الشخصي المنقطع عن كل ما عداه، دون التعويل على انتماء لدولة أو أمة أو حدود أو هوية. وهذه الدعوة ليست هروباً من المسؤولية الجماعية، بل إنها الفكرة الغائبة التي لم نجربها ويمكن أن تكون استراتيجية واعية للتعامل مع واقع جديد. وفيها كذلك اعتراف بأن المرحلة “المائعة” الحالية تتطلب إعادة النظر في مفاهيمنا وطرائق تفكيرنا. حين تنهار المنظومات التي كنا نعتبرها المنطلق للتفكير تجاه كل شيء، علينا التعامل مع مثل هذا الإنهيار من الزاوية الإيجابية، والخطاب هنا يخص النخبة أما عامة الناس فإن الفطرة ستقودهم إلى استحضار البنى التقليدية من العشيرة والطائفة والقبيلة والثقافة الفرعية إلى القروية والعائلة في نطاقها الضيق، وهذا اختبار كبير وامتحان قدرات أخلاقية وفكرية تضع من يحسبون أنفسهم من الطبقة المثقفة أمام خيار الالتحاق بالعشيرة والطائفة، أو المراهنة على شحذ الوعي في مرحلة تعويم المفاهيم والمراهنة على حرية التفكير برؤية فردية لنقد الذات والمجتمع والماضي القريب، وهذا الفعل ليس الهدف منه جلد الذات وليس كذلك ترفاً بل ضرورة للنجاة والقطع مع ماض أسس لكل هذا الفشل المريع.
قد يبدو هذا الخراب مأساوياً للوهلة الأولى لكن من الحكمة النظر إليه على أنه فرصة للبناء من جديد، ويمكن أن أن يكون الخراب الحاصل في عالمنا العربي إيجابيا لأنه يعيدنا إلى نقطة البداية الصحيحة لبناء الدول والمجتمعات على أسس أكثر واقعية. تخيلوا لو أن نظام القذافي (نظام اللادولة) استمر حتى اليوم!! صحيح أن ليبيا واحدة من الدول العالقة في الانقسام بين حكومتين وجيشين ولم تتجاوز العراقيل التي تعطل بناء نظام جديد، لكنها ستتجاوز هذا المنعطف وتؤسس مرحلة قادمة ستكون أفضل بالتأكيد، قد يطول الوقت المرتقب لتأسيس البناء الجديد في ليبيا وغيرها من الدول العالقة في ثورات الربيع التي لم تكتمل وغرقت في وحل فشل ما بعد سقوط الأنظمة، إلا أن أحد المداخل الأساسية للحل يتطلب الكف عن التبرير للتبعية وعن التفكير بأسلوب القطيع واجترار الشعارات والانقسامات الحادة على أسس جهوية أو قبلية أو طائفية.
لماذا لا تكون العودة إلى نقطة الصفر في عالمنا العربي بداية للتحرر من أوهام الماضي والتخلص من الشعارات الزائفة التي كانت توجه العمل السياسي في المنطقة؟ لدينا فرصة للتخلي عن عقلية القطيع التي سمحت للأنظمة الاستبدادية بالهيمنة والاستمرار. ومن هنا فإن التحدي الحقيقي هو عدم التوقف طويلا للبكاء على الأطلال وتجاوز اليأس إلى الاستفادة من لحظة الفراغ للتفكير في بناء مستقبل جديد، وفي النهاية الحياة لا تتوقف والأجيال القادمة ستصنع مصيرها ونحن اليوم جزء من الغد، علينا الاعتراف أن النماذج القديمة أثبتت فشلها، وأنها كانت غطاء لممارسات أمنية لترهيب الشعوب وتغليف ذلك الترهيب والإذلال بعناوين قومية أو وطنية أو دينية وأحيانا الجمع بينها كلها. وبالتالي أي محاولة للعودة إلى الماضي محكومة بإعادة إنتاج الفشل الذي قاد إلى الانهيار الحاصل اليوم.
الواقع يثبت أننا بحاجة إلى بناء روابط تجمع بين الحرص على المصالح والقيم الإنسانية ونقد ورفض استنساخ الخطابات التعبوية القديمة، وتأسيس المواطنة التي تتعامل مع الإنسان ليس بوصفه من الرعية بل بوصفه صاحب حقوق قبل الواجبات.
ستنقرض الأجيال التي أسست لكل هذا الخراب، وسنكتشف مجددا أن اقتران حياة الإنسان بعمر افتراضي محدود نعمة كبيرة، هذه النعمة تنقذ كل نصف قرن أو أكثر أجيالا جديدة من ديناصورات بشرية لم يعد فكرها يخدم النمو الطبيعي لمجتمعاتها، ونحن سنصبح بالنسبة لأجيال أحدث ديناصورات بشرية تثرثر وتنظر بالكلمات لما يمكن أن تستشرفه برامج الذكاء الاصطناعي وتحوله إلى خطط عمل قابلة للتنفيذ في نطاق زمني محدد وواضح.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news