في العام 2004، قمتُ بزيارة سقطرى بتكليفٍ من رئيس تحرير صحيفة الوحدة الأستاذ حسن عبد الوارث – رحمه الله – لإعداد مواد صحفية متنوعة عن الجزيرة. قبل السفر، حدّثني عن جمالها، وأخبرني أنه زارها منتصف الثمانينيات ولم يكن يريد مغادرتها، ثم اختتم حديثه قائلاً: “سقطرى فعلاً جنة الله في الأرض.”
اكتفيتُ بهذا الكلام، ولم أبحث عن معلوماتٍ عن الجزيرة، مفضّلًا رؤيتها واكتشافها على الطبيعة.
حزمتُ حقيبتي، واتجهتُ صوب المطار. وبعد حوالي ساعتين، هبطت الطائرة. خلال الطريق من المطار إلى مركز الجزيرة، حديبو، لم أشاهد سوى أرضٍ قاحلة، وجبالٍ جرداء، وغبار. قلت في نفسي: ربما الجمال ما زال في الداخل.
وصلتُ إلى الفندق الوحيد في الجزيرة، وهو مكوّنٌ من دورين، ولا تزيد عدد غرفه عن أصابع اليدين. فندقٌ متواضعٌ جدًا، سواءٌ من حيث الشكل أو الخدمات. وضعتُ حقيبتي، وغادرت الفندق للقيام بجولةٍ سريعةٍ على حديبو، لكنني رجعتُ منها بانطباعٍ سيّئٍ للغاية.
المركز خالٍ من الجمال، وأبسط الخدمات، والمحلات التجارية. أشبهُ بقريةٍ صغيرة، ولا يوجد غير مخبزٍ واحدٍ صغير، إن تأخرتَ عن الساعة السابعة مساءً، فلن تجد شيئًا تأكله.
في اليوم التالي، قمتُ بجولةٍ أخرى، لعلّي أجد جمالًا هنا أو هناك، لكن بلا فائدة. شعرتُ بإحباطٍ شديد، وقررتُ مغادرة الجزيرة، لكن حتى هذا لم يكن ممكنًا، إذ لم تكن هناك سوى رحلةٍ واحدة من وإلى الجزيرة أسبوعيًا.
حينها، نصحني العامل في الفندق بالتوجه إلى مكتب هيئة حماية البيئة في الجزيرة، لأنهم يقومون برحلاتٍ إلى المحميات بين الحين والآخر، وأخبرني أن الجمال الذي أبحث عنه موجودٌ في المحميات، أما حديبو، فهي بمثابة سوقٍ ومكاتب حكومية فقط.
عملتُ بنصيحته، وتوجّهتُ إلى المكتب، ولحسن حظي، كانوا على وشك الذهاب إلى محمية حمهل، فأخذوني معهم.
كنا أربعة: خبير سويدي، والسائق، وزميلي، وأنا. المسافة إلى حمهل تستغرق ساعتين، والطريق وعرة وغير معبّدة، وعلى جانبيها أراضٍ ترابيةٌ قاحلة، وجبالٌ جرداء خاليةٌ من الغطاء النباتي، والجو حار.
بعد فترة صمت، بدأتُ الحديث مع الخبير السويدي عن انعدام الخدمات ووسائل الراحة في الجزيرة، على أمل أن يبدأ هو بالشكوى أيضًا، فأضمن على الأقل مادةً صحفيةً عن هذا الموضوع. لكنه اكتفى بالقول: “هذا الوضع هو أفضل ما في الجزيرة، وأتمنى أن يبقى كما هو.”
حاولتُ جَرَّه إلى الحديث عن وعورة الطريق، وكيف أن الحال سيكون أفضل لو تم تعبيده ليسهّل على السياح الوصول إلى المحميات، ويوفّر عليهم التعب والإرهاق، لكنه اكتفى بالنظر إليّ شزرًا، ثم انشغل بحاسوبه المحمول. فالتزمتُ الصمت.
وصلنا إلى حمهل، وهي محميةٌ ليس فيها إلا جبالٌ وأشجار دم الأخوين منتشرةٌ في كل مكان، ولا شيء آخر. لا استراحات، ولا منشآتٍ سياحية، ولا حتى محل بقالةٍ صغير لبيع المياه.
بقيتُ تحت إحدى الأشجار، أنتظر الخبير السويدي لينجز عمله، الذي لم أعد أتذكره الآن، لكنني أذكر أننا مكثنا ساعةً كاملة ننتظر، فقط ليقوم بلفّ الحبل حول أحد سيقان الأشجار حتى لا يخدش اللحاء!
عدنا إلى السيارة وغادرنا المحمية. سألته وأنا أكتم غيظي:”أليس من الأفضل وجود منشآتٍ سياحيةٍ هنا، ليستطيع السياح المكوث لفترة أطول والاستمتاع بالمكان؟”
فبهت الخبير، ثم بدأ يشرح لي الوضع:”السياحة هنا بيئية، وهي تختلف عن أنواع السياحة الأخرى. إذا كنتَ تريد الاستمتاع بالمنتجعات والشاليهات والمطاعم، فعليك الذهاب إلى شرم الشيخ أو هاواي. أما هنا، فالسياحة لعشاق الطبيعة، الباحثين عن الهواء النقي، والمناظر الخلابة، والنباتات والطيور النادرة، والشعاب المرجانية، والشواطئ النظيفة. هذه هي ميزة سقطرى: أنها جزيرةٌ بكر، لم تعبث بها المدنية الحديثة وأدخنة المصانع، وما زالت كما خلقها الله.”
في منتصف الطريق، طلب الخبير من السائق التوقف فجأة، ونزل بسرعة، ثم عاد وبيده علبة بيبسي فارغة، مدهوسة، وصدئة. ولوّح لي بها قائلًا:”هذه هي نتيجة السياحة غير المنظمة التي تتحدث عنها؟!”
ساد الصمتُ بيننا حتى وصلنا إلى حديبو، وعدتُ إلى الفندق، أعيد التفكير في كل ما حصل. وتغيّرت نظرتي إلى الجزيرة.
في اليوم التالي، ذهبتُ إلى قلنسية، التي تبعد ساعةً ونصف عن حديبو. هناك، رأيتُ المياه النظيفة، والشواطئ البيضاء، والطبيعة البكر. استمتعتُ بالمكان، وعشقتُ الجزيرة.
التقيتُ بسائحٍ عجوزٍ وزوجته، كانا مستلقيين على الشاطئ، وسألتهما:
“أليس من الأفضل لو وُجد هنا شاليه ومطعم لتناول الغداء والسمك المشوي؟”
فأجابا بصوتٍ واحد، مرتفع: “لااااا”
تذكرتُ كلام الخبير السويدي، و”لاااا” السائح العجوز، وأنا أتابع ما يجري في سقطرى حاليًا من عبثٍ وتدميرٍ وتخريب:
تدفقٌ عشوائيٌ للسياح، دون تنظيمٍ أو توعية بكيفية التعامل مع المحميات.. منشآتٌ سياحيةٌ تُبنى داخل المحميات، بلا أي دراساتٍ بيئية.. انتشار القمامة والتلوث، سواء من السياح، أو من أدوات الإمارات التي تعبث بالجزيرة.
أعتقد أن ذلك الخبير السويدي، لو رأى ما آل إليه حال الجزيرة اليوم، لأُصيب بجلطةٍ ومات.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news