عدن توداي
كتب / محمد المسيحي
مقالات ذات صلة
الدكتور أمين الشيباني .. في رحاب الخالدين
البريقة وكل مناطق عدن تستغيث….. عبدالرحمن الديدي نجم يستحق الاهتمام والوفاء والتقدير والثناء لابداعاته وخصاله الحميدة
حيث تتلاشى القيم أمام طغيان المادة، وحيث يُغيب صوت العطاء تحت وطأة الحاجة، هناك رجال أفنوا أعمارهم في صناعة العقول، وتشكيل الأجيال، وبناء الأوطان، ليجدوا أنفسهم في آخر العمر منسيين على قارعة الحياة، يصارعون الفقر والخذلان.
في ليلة رمضانية هادئة، وبعد صلاة التراويح، قصدت مديرية الشيخ عثمان بعدن لشراء بعض حاجيات البيت، وبينما كنت أرتشف الشاي في أحد مقاهي المدينة، التقيت بمعلم قدير، تربوي عتيق، أفنى أكثر من ثلاثين عامًا في خدمة التعليم، فكان شاهداً على أجيال نهضت بفضله، وأصبحت اليوم تتبوأ المناصب العليا، من مهندسين وأطباء وقضاة ووزراء وصحفيين وقادة.
نظر إليّ بنظرة مثقلة بالهموم، وتنهد بعمق وكأنه يحمل جبالاً من الوجع فوق كتفيه، ثم قال بصوت متهدج: يا ولدي، من أين أبدأ لك حديثي؟ هل أبدأ من راتبي الهزيل الذي لم يعد يكفي لسد رمق أسرتي؟ أم من وضعي الذي ازداد سوءًا مع ارتفاع الأسعار؟ أم من التهميش الذي نعيشه كمعلمين أفنوا حياتهم في خدمة التعليم؟
هززت رأسي بأسف، وقلت له: يبدو أن الوضع أصبح أكثر سوءًا مما كنت أتخيل، فأجابني بحزن: نعم، وإذا زاد الظلم انقلب إلى قهر لا يُحتمل.
استرسل هذا التربوي العريق في الحديث، وقال بحزن عميق: يا ولدي، كيف يستطيع المعلم أن يُعطي وهو مشتت الذهن؟ كيف يستطيع أن يُلقي دروسه وذهنه منشغل بقوت أسرته؟ كيف يمكن للمعلم أن يكون قدوة وهو لا يستطيع حتى شراء قلم أو دفتر لأطفاله؟
توقف لبرهة وكأنه يحاول أن يكتم دموعه، ثم تابع بحسرة: “اليوم، أصبح راتب المعلم لا يكفي حتى لشراء معوز وشميز، فكيف له أن يُعيل أسرة بأكملها؟ هل يُطعمهم أم يُكسيهم؟ هل يوفر لهم العلاج أم يدفع إيجار المنزل؟ أصبحنا في بلد يُهان فيه المعلم بدل أن يُكرم، في زمن صار فيه التعليم مهنة الفقراء، بعد أن كانت مهنة النُبلاء.
سرد هذا المعلم قصصاً موجعة عن زملائه، عن معلمين يذهبون إلى المدارس وقلوبهم تنزف ألماً، عن من يقصدون المدارس بأقدام حافية لأنهم لا يملكون حتى حذاءً مناسبًا، عن معلمين مرضى لا يستطيعون دفع تكاليف العلاج، عن آباء عاجزين عن شراء دفاتر لأبنائهم، وعن رجال علم يقفون في طوابير الذل بحثًا عن لقمة العيش.
ثم قال بصوت متهدج: “يا ولدي، العيد على الأبواب، وأطفالي السبعة ينظرون إليّ بأمل، ينتظرون مني أن أشتري لهم ملابس جديدة، ولكن كيف لي أن أفعل؟ راتبي أقل من مئة ألف ريال، وهو لا يكفي حتى لشراء كيس دقيق أو بضع كيلوغرامات من الأرز، فكيف لي أن أفرح أطفالي؟ كيف لي أن أواجه نظراتهم المحبطة؟
بعيون مغرورقة بالدموع، قال هذا المعلم: أتمنى ممن هم في هرم السلطة، أولئك الذين كانوا بالأمس طلابًا يجلسون أمامنا، يتلقون العلم على أيدينا، أن يتذكروا من أوصلهم إلى هذه المناصب، أن يتذكروا المعلم الذي صنعهم، أن ينظروا إلينا بعين الاحترام والتقدير، فأي مجتمع يُهين معلميه لن ينهض أبداً، وأي دولة تتجاهل معاناة معلميها لن ترى النور.
غادرت المقهى وأنا مثقل بالهموم، كلمات هذا المعلم لا تزال ترن في أذني، ووجهه المنهك لا يزال محفورا في ذاكرتي، تُرى، إلى متى سيظل المعلم يُعاني في صمت؟ إلى متى سيبقى رجل العلم أسير الحاجة والتهميش؟ متى ستُدرك مجتمعاتنا أن المعلم هو الركيزة الأساسية لبناء الأوطان، وأنه لا يمكن لأمة أن تنهض دون أن تُكرم مناراتها؟
تحرير المقال
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news