بدون إهداء:
إلى القاتل المأجور بدرجة رئيس دولة، علي عبدالله صالح ، أسوأ رئيس عرفه التاريخ السياسي اليمني المعاصر.
رجل جمع بين البلطجة، والفهلوة، واللصوصية، والشعبوية التي دمّرت وحدة المجتمع والدولة. وصل إلى السلطة بالدم والاغتيال، بتدبيره مع قوى خارجية، جريمة قتل الرئيس الثالث للجمهورية، الشهيد ، إبراهيم محمد الحمدي، الذي ما زالت ذكراه العطرة حيّة في وجدان اليمنيين وأقلام الباحثين، تتجدد في كل مناسبة، خاصة في ذكرى ميلاده واستشهاده النبيل.
لقد خلد الحمدي اسمه بإنجازاته في الإدارة، ومحاولة بناء الجيش الوطني، وتطوير العمران، وإرساء بدايات أولى لدعائم الدولة، وسعيه لتحقيق الوحدة السلمية. كما استكمل إنشاء التعاونيات بطريقة قانونية، ما جعلها تتوسع في مختلف أنحاء البلاد. هذه الإنجازات، رغم أن فترة حكمه لم تتجاوز أربع سنوات، جعلته رمزًا وطنيًا خالدًا في قلوب اليمنيين، قُطع مساره الحياتي بعملية اغتيال بشعة، نفّذها أبشع من عرفتهم الساحة السياسية اليمنية.
أما علي عبدالله صالح، فلا يليق به سوى وصف “القاتل المأجور”. فهو المسؤول عن اغتيال الشهيد د. عبدالسلام الدميني وإخوته من الدكاترة الأبرار، والعقيد البطل ماجد مرشد في قلب صنعاء، واللواء يحيى المتوكل، وشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني عبر التسميم البطيء، والشهيد جار الله عمر بتنسيق مشترك مع عبدالمجيد الزنداني، منفذه الإرهابي جار الله السعواني.
هذه القائمة مفتوحة، تحوي مئات الأسماء من الشهداء والضحايا، الذين لن يتسع هذا المقال والمقام لذكرهم جميعًا.
ورغم بقائه في الحكم أكثر من ثلاثة عقود ونصف، لم يترك صالح خلفه إلا خرابًا، ما زلنا نراه اليوم واقعًا مريرًا في الشمال والجنوب.
النكبة الأكبر أن ما يُسمى “مجلس المثامنة”، الذي أطلق عليه زورًا اسم “المجلس الرئاسي الانتقالي”، ليس إلا امتدادًا سياسيًا وسلطويًا لمنظومة حكم صالح، بنفس الأشخاص والأسماء، وبنفس المحتوى الفاسد. هذا المجلس مدعوم من قوى إقليمية ودولية استعمارية، لا يهمها سوى عرقلة مشروع بناء الدولة اليمنية، ومنع التقدم الاجتماعي الذي يتطلع إليه الشعب.
ستبقى جرائم صالح ومفاسده وصمة عار تطارد اليمنيين لأجيال. والأسوأ أن هناك من ما زال يردد: “رحم الله النباش الأول”، رغم أن هذا “النباش” — حفّار القبور — هو من جلب هذا العفن السياسي الدامي الذي يُمزق اليمن حتى اللحظة.
رئيس قاتل من لحظة اغتصابه السلطة، إلى خروجه منها مقتولًا — بلا كفن ولا قبر معلوم.
قُتل قتلًا يستحقه بجدارة، بعد أن أكثر اللعب على رؤوس الثعابين، حسب تعبيره الشهير. ستظل دماء شهداء، الحراك الجنوبي السلمي، وشهداء، شباب ثورة فبراير 2011م تطارده، وتُدين جماعته المجرمة، بمن فيهم أعضاء “المجلس الرئاسي الانتقالي”، إلى أن يتحقق الإنصاف والعدالة الاجتماعية، سواء عبر “العدالة الانتقالية” المنشودة، أو باستعادة الأموال المنهوبة المكدسة في بنوك الخارج، ليعود الحق للشعب اليمني — صاحب الحق الحصري في هذه الثروة.
ولا عزاء للقتلة.
كانت عدن، حين كانت مستعمرة تحديداً، هي بوابة المدنية ونقطة انطلاقنا نحو التغيير السياسي والثقافي والوطني الشامل في اليمن. ثم جاءت صنعاء وعدن وتعز، بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963م، لتصبح بوابة اليمن المعاصر نحو الحداثة والتحديث، بالصورة التي عبّرت بها الثورتان عن نفسيهما في مجرى تحولات العملية الثورية، للانتقال من الثورة إلى الدولة، مع مراعاة خصوصية كل من التجربتين في الشمال والجنوب، والتحديات المختلفة التي واجهتها كل ثورة منهما.
لقد كانت هاتان الثورتان تعبيراً عن القوى الحية الصاعدة، ليس في اليمن فحسب، بل في منطقة الجزيرة والخليج أيضاً، ما جعل العالم يضع لهما ألف حساب.
وجاءت وحدة 22 مايو 1990م لترفع من سقف توقعات دور ومكانة اليمن الموحد “الجمهورية اليمنية” في المنطقة العربية.
لكن جاءت جريمة حرب 1994م لتعيد كل اليمن عقوداً إلى الخلف، بعد أن توهّم “فرسان الحرب والجهاد”، بقيادة علي عبدالله صالح وجماعته التكفيرية الحربية، أنهم انتصروا على الوحدة السلمية الديمقراطية عبر الوحدة بالقوة والغلبة.
في تقديري، لا يمكننا فهم الفصول الدامية والجارحة لما يجري في اليمن اليوم دون العودة إلى جريمة حرب 1994م. فقد دمّرت تلك الحرب وفكّكت ليس فقط الخريطة الجغرافية والديمغرافية الوطنية، بل امتد أثرها التدميري والتفكيكي والانقسامي إلى لغة السياسة نفسها، ولغة التفاهم والحوار في كل الوطن.
عدنا معها للحديث عمّا كان قبل الاستعمار والإمامة، وهو ما نعيشه عملياً اليوم، في شمال اليمن وجنوبه. عدنا إلى الخطاب الأيديولوجي للإمامة، المتمثل في “الولاية”، وإلى خطاب الاستعمار، وخطاب “الرابطة”، و”عدن للعدنيين”، و”الجنوب العربي” — وكأنك يا أبا زيد ما غزيت!
وهنا تكمن الكارثة السياسية والثقافية والوطنية، بصرف النظر عن كيف وصلنا إلى هذا المآل، ومن بالضبط أوصلنا إليه. وأرى أن جريمة حرب 1994م كانت من الأسباب الجوهرية والمقدمات الأولى إلى ذلك.
إن ما جرى في 1994م — وما قبلها من حروب إقصاء وتهميش — هو الذي ولّد وأنتج حروب صعدة (2004-2009م)، وعبّد الأرضية السياسية والوطنية والاجتماعية للحراك الجنوبي السلمي، 2007م، وهو أجمل وأنبل ظاهرة سياسية واجتماعية ووطنية في تاريخ اليمن المعاصر كله، وهي التي، في تقديري، مهدت إلى جانب عوامل عديدة، لثورة الشباب في فبراير 2011م، بعد أن حوّلت جريمة حرب 1994م أرض وثروات واقتصاد جنوب البلاد إلى غنيمة حرب لطرفي الحرب (العسكري والإسلاموي/ “الجهادي” في صورة التكفيري البائس، عبدالمجيد الزنداني وجماعة أسامة بن لادن الأفغانية)، تم خلالها العبث بكل جغرافية أرض الجنوب، وباقتصاده، وبناسه.
حينها، كتبت بحثاً مطولاً حول هذا المعنى: “القضية الجنوبية…”، وفي بعض مفرداته وتفاصيله تشبيه لما تم في الجنوب ضمن جدول مقارن بما جرى في العراق، بعد غزوه واحتلاله من قبل الأمريكان وأعوانهم من الطائفيين العراقيين (شيعة وسنة)، في عام 2003م. تضمن الجدول توضيح المآسي والكوارث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والسيكولوجية والوطنية، التي حلّت بأرض الجنوب اليمني تحديداً، والتي انعكست سلباً — بالضرورة — على كل الأرض اليمنية، وفي القلب منها مدينة عدن.
حاولت جميع الأطراف المليشياوية القبلية والطائفية والمناطقية تحويل عدن إلى قرية ضمن عمليات حروب احتلالية متوالية استهدفت العمق المدني والثقافي/ الحضاري لمدينة عدن، لم تتعافَ منه المدينة عدن، بل وكل اليمن حتى اللحظة.
إن حرب 2015م، التي ما تزال — مع الأسف — مستمرة بأشكال مختلفة، استهدفت وما تزال تستهدف في جوهرها المدينة عدن بدرجة أساسية. لم يتوقف القصف العسكري بكل آفات السلاح الفتاك، بما فيه الطيران، على مدينة صغيرة مكتظة بالسكان، تشبه غزة اليوم، فضلاً عن النهب الاقتصادي الذي طال واستهدف كل أرض وعقار في عدن، المدينة، بل وكل أرض الجنوب، وصولاً إلى حضرموت.
كل هذا بعد أن تعهّد علي عبدالله صالح بتحويل عدن إلى قرية، وهو انتقام “القبيلي”، و”العسكري”، و”البدوي”، جميعهم لديه ثأر مع مدينة الفكر والمدنية والسياسة والصحافة والحداثة.
ذات الحقد والكراهية التاريخية لمناطق “الطوق القبلي” المحيط بصنعاء على المدينة/ العاصمة استمر طيلة القرون الماضية، وحتى اليوم، لمنع تطورها وتقدمها وتمدنها.
كانت عدن – وما تزال رغم التحديات الداخلية والخارجية – حاضنة الوطنية اليمنية المعاصرة، عدن التي لا تشعر وأنت فيها إلا أنك مواطن يمني كامل الأهلية. ففي عدن نشأت وتشكلت الصحافة اليمنية الحديثة المعاصرة، الصحافة التي تجاوزت ثقافة التشطير الاستعماري والإمامي، في ظل وجود الاستعمار والإمامة، فكانت “فتاة الجزيرة”، وبعدها “صوت اليمن”، في العام 1946م، الصادرة في مدينة عدن، إلى جانب عشرات الصحف الوطنية اليمنية الأخرى.
الكثير من الذين يشتغلون بتاريخ الصحافة يعلمون أن “فتاة الجزيرة”، لمحررها وصاحبها المفكر والمناضل محمد علي لقمان، أحد قيادات “الجمعية العدنية”، كانت هذه الصحيفة أحد أهم الحوامل الإعلامية والسياسية والثقافية التي عبّر من خلالها كل أبناء اليمن عن قضية أبناء الشمال، وهي — من خلال محمد علي لقمان وغيره — من احتضنت قضايا أبناء الشمال تحت الاستبداد الإمامي، ودافعت عن قضاياهم السياسية والاجتماعية المختلفة بقدر ما تستطيع.
ومن قلب المدينة عدن، ومن جغرافية وديمغرافية هذه المدينة، نشأت الحركة العمالية المعاصرة “المؤتمر العمالي”، وبعدها “النقابات الست”، من أبناء اليمن جنوباً وشمالاً، وتشكلت أول مؤسسة سياسية تنظيمية وطنية يمنية “الجبهة الوطنية المتحدة”، 1955م، قياداتها العليا وقواعدها من أبناء الجنوب والشمال.
عدن التي هرب إليها أحرار اليمن نجاة بأنفسهم في العام 1944م من بطش الطاغية ولي العهد أحمد، وعلى رأسهم أحمد محمد نعمان، ومحمد محمود الزبيري، ومنها أعلنوا تأسيس أول حزب سياسي يمني (1944م)… عدن التي حمت وآوت مشائخ اليمن الوطنيين مطيع دماج ورفاقه.
عدن التي حين ضاق الاستعمار وحاصر “حزب الأحرار اليمني” بقوانينه الجائرة، لجأوا لتأسيس “الجمعية اليمانية الكبرى” عام 1946م، كإطار وطني جامع لاستمرار مزاولة نشاطهم السياسي والاجتماعي والوطني من قلب المدينة عدن.
عدن التي استقبلت — بعد فشل حركة 1948م — جميع شباب الأحرار اليمنيين، وفيها تم تأسيس “الاتحاد اليمني” 1952م، في تحولاته السياسية والتنظيمية المختلفة، وجميعها محطات كانت تتبلور وتتشكل فيها تدريجياً هوية “الوطنية اليمنية المعاصرة”، حتى تأسيس “رابطة أبناء الجنوب” 1951م، كصوت سياسي وطني يحمل راية وحدة أبناء الجنوب اليمني في ظل الاستعمار وفي مواجهته.
ومن قلب المدينة عدن، حاضرة الثقافة والسياسة اليمنية المعاصرة، وُجدت وتشكلت الأحزاب الوطنية القومية المعاصرة: “حزب البعث العربي الاشتراكي”، وبعده “حركة القوميين العرب”، و*”حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي”، و”حزب الشعب الاشتراكي”، حتى “الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل”، و”جبهة تحرير الجنوب”* أو “منظمة تحرير الجنوب”، دون اسم أو مسمى “اليمني المحتل”… إلخ
ولا داعي هنا للتذكير بأن عدن هي من احتضنت، منذ النصف الأول من الأربعينيات وحتى النصف الثاني منه، النوادي والجمعيات والاتحادات لأبناء شمال البلاد، ومن جميع مناطق شمال البلاد: نادي الاتحاد العريقي في (التواهي) (1944م)، نادي الاتحاد الأغبري (التواهي) (1944م)، نادي الاتحاد الذبحاني (1944م)، نادي الاتحاد الشيباني (المعلا) (1944م)، جمعية اتحاد المقاطرة (عدن 1944م)، جمعية الشباب الحكيمي (الشيخ عثمان/ 1944م)، جمعية بني غازي الخيرية (التواهي/ 1947م)، جمعية رداع (التواهي 1947م)، رابطة أبناء البيضاء (التواهي / 1946)… إلخ. أنظر حول ذلك، د. عبدالعزيز قائد المسعودي: (معالم تاريخ اليمن المعاصر، القوى الاجتماعية لحركة المعارضة اليمنية (1905-1948م) ط(1)، ١٩٩٢م، ص ٢٨٧
إلى جانب العديد من النوادي والاتحادات والمنظمات المبكرة الأسبق في النشأة في جنوب اليمن، والتي يفصّل في إيرادها تاريخياً د. يحيى سهل في كتابه الجميل عن “المجتمع المدني في عدن”.
ومن عدن كان اتصال أبناء اليمن بجميع قارات العالم، ومن هذه النوادي والجمعيات والاتحادات تم إرسال عشرات، بل مئات الطلاب، للدراسة في الخارج: مصر، لبنان، أمريكا…
بعد أن أصرّ الاستعمار على جعل عدن لحظة استعمارية انقسامية، “فرّق تسد”، في تاريخ الوطن اليمني، بالتمييز بينهم وبين أبناء المحميات الشرقية والغربية، وبين أبناء الشمال في ظل الإمامة، في مقابل صيغة أبناء عدن “عدن للعدنيين”، العدنيين المميزين والمتميزين، بمن فيهم من أبناء الجنسيات الأخرى الأجنبية غير العربية: إنجليز، هنود، صومال، باكستان… إلخ. لحظة انقسام اجتماعية وثقافية ووطنية، وخاصة بعد بروز مشروعه الفيدرالي الاستعماري منذ منتصف الخمسينيات (1954م)، وهو الذي وقفت ضده، ومن قلب المدينة عدن، كل أبناء الجنوب والشمال، وعلى رأسهم الحركة العمالية، والجبهة الوطنية المتحدة (1956م)، والاتحاد اليمني، وكل القوى التقدمية اليمنية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news