أعد الحلقة لـ”يمن ديلي نيوز” محمد العياشي:
في حلقة اليوم يستعرض “يمن ديلي نيوز”، زيارة المستشرق الفرنسي “جان جاك بيربي” التي قام بها في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين إلى اليمن.
كان شمال اليمن حينها تحت حكم الإمام يحيى حميد الدين، وكان قد فرض عزلة تامة لليمن عن العالم الخارجي، وكان البلد يواجه تحديات سياسية واجتماعية جمة.
كما أن شمال اليمن كان بالنسبة لكثير من الغربيين غريبا لكن رحلة بيربي شكلت نقطة في المحاولات الغربية لاكتشاف هذا البلد العريق.
من هو بيربي؟
جان جاك بيربي هو مستشرق فرنسي معروف بإسهاماته في دراسة تاريخ وثقافة العالم العربي، مع تركيز خاص على اليمن.
وُلد “بيربي” أواخر القرن التاسع عشر، ودرس في فرنسا اللغة العربية والتاريخ، مما دفعه للغوص في دراسة المناطق العربية المجهولة آنذاك، مثل اليمن.
رحلة محفوفة بالتحديات
في عام 1936، قرر بيربي القيام برحلته إلى اليمن في وقت كانت فيه البلاد شبه مغلقة عن العالم بسبب الحروب والصعوبات الجغرافية.
كان الوصول إلى اليمن في تلك الفترة صعبًا للغاية، لكنه كان مصممًا على إتمام مهمته الأكاديمية التي تضمنت دراسة ثقافة اليمن، وتوثيق تاريخها، وجمع المعلومات عن الدين والعادات السائدة في المجتمع اليمني.
استمر بيربي في اليمن لمدة عام كامل، حيث شملت رحلته العاصمة صنعاء وعددًا من المدن المهمة مثل الحديدة وتعز، وكان الإمام يحيى حميد الدين هو الحاكم الفعلي في ذلك الوقت.
أهداف الزيارة وأسبابها
كان الهدف الأكاديمي لزيارة بيربي لليمن هو فهم الحياة الاجتماعية والثقافية التي كانت نادرة المعرفة في الغرب آنذاك.
سعى أيضًا لتوثيق تاريخ اليمن القديم والمعاصر عبر جمع المعلومات من المصادر المحلية، كما اهتم بتوثيق المذهب الزيدي الذي كان المذهب الحاكم في شمال البلاد.
كما كان بيربي حريصًا على اكتشاف المواقع الأثرية في اليمن، خاصة تلك المرتبطة بالحضارات القديمة مثل سبأ وحمير.
أبرز لقاءاته في اليمن
خلال فترة مكوثه في اليمن، التقى “بيربي” الإمام يحيى وكانت لقاءاته معه تهدف إلى تعزيز الفهم للأوضاع السياسية والدينية.
كما علماء الدين الزيديين الذين قدموا له معلومات هامة حول الحياة الدينية في اليمن، إضافة إلى لقائه بشخصيات سياسية واجتماعية في صنعاء ممن كان لهم تأثيرا في البلاط الإمامي.
والتقى “بيربي” أيضا زعماء القبائل في مناطق عدة مثل تعز والحديدة، حيث اكتسب بيربي نظرة أوسع عن الحياة الاجتماعية والسياسية.
تمكن بيري خلال عامه في اليمن من إنجاز العديد من الدراسات البحثية، سجل خلالها تفاصيل دقيقة عن العادات والتقاليد اليمنية وأثرها على الحياة اليومية.
كما قام بدراسة الآثار اليمنية القديمة، إضافة إلى ذلك، أجرى دراسة معمقة عن المذهب الزيدي وأثره على المجتمع اليمني والسياسة في البلاد.
المذهب الزيدي
من خلال كتابه “جزيرة العرب” أبدى “بيربي” اهتمامًا خاصًا بالمذهب الزيدي، حيث قال إن الزيدية “مذهب إسلامي يختلف عن السُّنة والشيعة في بعض المبادئ الفقهية والسياسية. ويعتبر الزيديون أن الإمامة هي حق لأبناء علي بن أبي طالب، لكنهم لا يتبعون نفس تفسير الشيعة الاثني عشرية.
وقال إن الزيديين في اليمن يعتقدون بأن الإمام يجب أن يكون من نسل علي بن أبي طالب، ولكنهم أكثر مرونة في اختيار الإمام مقارنة بالشيعة الإثني عشرية، حيث يرون أن الإمام يجب أن يكون عادلًا وذو كفاءة، حتى لو لم يكن من أسرة معينة.
ولاحظ “بيربي” أن الزيدية كانت جزءًا أساسيًا من النظام السياسي في اليمن طوال فترة حكم الإمام يحيى حميد الدين، الذي كان من الأسرة الهاشمية الزيدية.
وأوضح أن الزيدية شكلت القاعدة الدينية التي ساعدت على استقرار الحكم الإمامي في اليمن، وكان لها دورا كبيرا في تشكيل الهوية الوطنية والسياسية للبلاد.
“بيربي” قال إن الزيديين يؤمنون بحقهم في الإطاحة بالظالمين وإقامة حكومة عادلة، وهو ما جعلهم في بعض الأحيان في مواجهة مع الحكومات الاستبدادية أو الأنظمة غير العادلة.
ووفقًا لبيربي، فإن الزيدية تتجنب الميل إلى التطرف أو التفسير الحرفي المتشدد، ويُعتبرون أكثر “تقدميين” مقارنة ببعض الحركات الشيعية الأخرى، وهذا يعكس مرونتهم الفكرية والسياسية.
صراع الزيدية
لكن “بيربي” تحدث في كتابه “جزيرة العرب” تناول التوترات والصراعات الداخلية التي كانت تحدث في صفوف الزيديين، مع وجود انقسامات بين مختلف الفصائل الزيدية.
وقد أشار إلى أن بعض الزيديين كانوا يدعون إلى الإصلاحات داخل المذهب، بينما كان آخرون يتمسكون بالحفاظ على التقليد الذي نشأ منذ مئات السنين.
نظام الحكم والمعارضة
وحول نظام الحكم قال بيربي إن حكم الإمام يحيى يعتبر حكماً ذا طابع ديني وأيديولوجي، حيث كان الإمام يتمتع بسلطة دينية وسياسية كبيرة في معظم أنحاء البلاد.
وقال إن الإمام يحيى ثم لاحقًا ابنه أحمد كانا يحكمان البلاد بنظام ملكي تقليدي وهرمي، حيث كان الإمام يمتلك سلطة مطلقة مستمدة من مكانته الدينية التي تجعل من الإمام شخصية محورية في الحياة السياسية والاجتماعية.
لكنه أشار أيضًا إلى التوترات الداخلية التي نشأت بسبب المعارضة المتزايدة لهذا النظام، خاصة من الفئات المتأثرة بالإصلاحات الحديثة في أماكن أخرى من العالم العربي.
وأشار إلى أن قوى محلية ظهرت كانت تسعى لإحداث تغييرات في النظام التقليدي، وظهرت حالة من الاستقطاب بين القوى المحافظة التي تؤيد استمرارية النظام الإمامي والقوى التي كانت تدعو إلى الإصلاحات.
وأشار “بيربي” إلى الدور القبلي حيث كانت هيمنة القبائل على الحياة الاجتماعية والسياسية في اليمن ملحوظة كما ذكر في كتابه جزيرة العرب.
وكانت القبائل تشكل جزءًا أساسيًا من نسيج السلطة في اليمن، وكان لكل قبيلة نفوذا كبيرا في مناطقها، مما يعكس الطبيعة القبلية التي كانت سائدة.
أكد بيربي أن اليمن مجتمع قبلي بامتياز، ولاحظ أن القبائل اليمنية تتمتع باستقلالية كبيرة، وكانت أحيانًا تشكل تحديًا للسلطة المركزية.
كما لاحظ بيربي أن اليمن في تلك الفترة كانت منغلقة إلى حد كبير عن العالم الخارجي، حيث لم تكن هناك بنية تحتية حديثة أو انفتاح اقتصادي مثل الدول المجاورة.
انطباعاته عن اليمن
لكن في المقابل كان بيربي مدهوشًا من التنوع الثقافي في اليمن، حيث وصف البلاد بأنها تحتوي على مجموعة غنية من التقاليد الدينية والاجتماعية التي تميزها عن باقي البلدان العربية.
وقال إن اليمن كانت تُعرف تاريخيًا باسم “العربية السعيدة” بسبب خصوبة أراضيها ومناخها المعتدل مقارنة بباقي أجزاء شبه الجزيرة العربية.
لاحظ أن الجبال اليمنية توفر بيئة زراعية غنية ساعدت على ازدهار المجتمعات هناك.
وأشار إلى أن اليمنيين كانوا من أوائل من زرعوا البن وصدّروه عبر ميناء المخا، ما جعل اسم “موكا” عالميًا مرتبطًا بالقهوة.
وصف أسواق صنعاء التقليدية بأنها نابضة بالحياة، تعكس روح التجارة التي تعود لقرون، حيث كانت السلع المحلية والمستوردة تباع في أزقة ضيقة ومزدحمة.
لاحظ وجود اقتصاد مغلق نوعًا ما بسبب عزلة اليمن وعدم ارتباطه القوي بالتجارة الدولية مقارنة بدول الخليج.
كما تأثر بمظاهر الحياة التقليدية، مشيدًا بالكرم والشجاعة التي يتميز بها الشعب اليمني. ورغم التحديات التي واجهها في رحلته، عبر بيربي عن تقديره للضيافة التي تلقاها من السكان المحليين.
في كتاباته، وصف بيربي اليمن بأنها “أرض تحتفظ بالكثير من أسرارها”، وأشاد بتقاليدها وعاداتها التي جعلت هذا البلد واحدًا من أكثر الأماكن غرابة في العالم ثقافيًا واجتماعيًا.
“بيربي” أشار إلى عدن وميناءها وقال إن ميناء عدن كان العصب الحيوي في الحياة بالمدينة، حيث كان يعد الميناء الوحيد على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية.
وعن حضرموت أثنى بيربي على مدن حضرموت التي وصفها بأنها مدهشة بمعمارها الرفيع مثل المكلا والشحر وسيئون، أما سقطرى فقال إنها ذات قيمة عالية، وأشار إلى أنها توازي الذهب في أهميتها.
ونشر بيربي بحثًا في مجلة “السنة الاجتماعية” في باريس عام 1956، عن يهود اليمن تناول فيه اندماج اليهود اليمنيين في المجتمع وحالة التعايش التي يعيشونها بكل سلام.
ختاما أسهم المستشرق جان جاك بيربي بشكل كبير في فهم العالم الغربي لليمن من خلال دراساته وأبحاثه.
شكلت زيارته لليمن حجر الأساس للعديد من الدراسات الأكاديمية التي تلتها، ولا تزال أعماله تعد مرجعًا هامًا للباحثين في مجال دراسات الشرق الأوسط.
المراجع:
– كتابه “جزيرة العرب”
– موقع “الأيام” اليمني
– مصادر متعددة
سلسلة حلقات “المستشرقون واليمن”:
الحلقة الأولى: الألماني “نيبور” ورحلته إلى البلاد التي تحكمها التوازنات
الحلقة الثانية: “هاليفي” في رحلة استكشاف تاريخ اليمن تحت عباءة التسول
الحلقة الثالثة: رحلة البريطاني “برتون” إلى أرض النقوش والعادات الفريدة
الحلقة الرابعة: “ثيسيجر” الذي وجد أن السعادة الحقيقية في قلب الصحراء
الحلقة الخامسة: فيلبي “الحاج عبدالله” الذي ساهم في رسم ملامح الجزيرة العربية واليمن
الحلقة السادسة: “جلازير” النمساوي الذي ارتدى ثوب “التشيع” لنهب آثار اليمن
الحلقة السابعة: “مانزوني” في رحلة تكشف تطور صنعاء قبل عودة الإمامة إليها
الحلقة الثامنة: “فريا ستارك” في مهمة الاستكشاف والتجسس لصالح بريطانيا
الحلقة التاسعة: “جورج كولان” رحلة دبلوماسية واكتشاف اللهجات اليمنية
الحلقة العاشرة: الألماني “هولفريتز” في رحلة إلى اليمن من الباب الخلفي
الحلقة الحادية عشرة: الفرنسي “نيزان” والوجه المظلم للاحتلال البريطاني في عدن
الحلقة الثانية عشرة: “فيليبس” على رأس بعثة أمريكية إلى جوهرة الصحراء “مأرب
”
الحلقة الثالثة عشرة: رحلة ماكنتوش لتعلم “العربية” في البلد الأقرب للفصحى
الحلقة الرابعة عشرة: الألماني “بورخارت” الذي قاده شغفه باليمن إلى مقتله
الحلقة الخامسة عشرة: الألماني “هيرش” أول غربي يزور شبام حضرموت
الحلقة السادسة عشرة: “روبرت سرجنت” في مهمة دراسة الثقافة اليمنية
الحلقة
السابعة عشرة: جورج وايمان بري “جاسوس” بريطاني بعباءة مستكشف
مرتبط
الوسوم
المستشرقون واليمن
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news