السلطات الحاكمة والإصرار على تكرار التجارب السياسية الفاشلة
قبل 11 دقيقة
كم يصاب الباحث في المجال الفكري والسياسي بالدهشة والاستغراب والذهول ، وهو يشاهد العديد من السلطات السياسية الحاكمة عبر التاريخ البشري ، وهي تقوم بتكرار الكثير من التجارب والأفكار السياسية التي ثبت فشلها على أرض الواقع في مراحل تاريخية سابقة دون أخذ العظة والعبرة من تلك الأحداث والتجارب ، ودون حتى على الأقل أن تكلف نفسها عناء دراستها ومعرفة سلبياتها وأخطائها التي أدت لفشلها وانهيارها وزوالها
.
والغريب في الأمر هو إصرار العديد من تلك السلطات على تكرار تلك التجارب السياسية الفاشلة وبنفس الأساليب والطرق والوسائل ، وكأن لدى القائمين على تلك السلطات إصرار عجيب على تكرار الفشل ، أو أنهم يعانون من الغباء السياسي والفكري الذي يقودهم للقيام بتكرار تجارب سياسية وفكرية ثبت فشلها على أرض الواقع وبنفس الوسائل والأساليب والأدوات ..
وخير مثال على ذلك، إصرار الكثير من السلطات الحاكمة عبر التاريخ على اعتماد سياسة فرض الأفكار الدينية ، والمذهبية ، والطائفية بالقوة ، والإكراه ، واعتمادها على منهج القوة والبطش والتنكيل بكل من يعارضها أو يقف في طريقها ، وقيامها بالسيطرة على منابر المساجد ودور العبادة ووسائل الإعلام ، بهدف فرض الفكر الديني أو المذهبي الواحد على جميع فئات الشعب ، دون مراعاة للتعدد الديني والمذهبي والطائفي السائد. كل ذلك يحدث رغم أن التجارب والأحداث التاريخية قد أثبتت الفشل الذريع لمثل تلك الممارسات والسياسات السلطوية ، فمن غير الممكن بل والمستحيل فرض الفكر الواحد والمذهب الواحد والطائفة الواحدة بالقوة والعنف ، لأن ذلك يخالف الفطرة الإنسانية ، فالإيمان بالمعتقدات والأفكار واعتناقها أمر يتم عن طريق الرغبة والقناعة والاقتناع ، ولا يمكن أن يتم عن طريق القوة والإكراه والاجبار. قد يتظاهر بعض الناس باعتناق دين أو مذهب السلطة الحاكمة نتيجة الخوف ، بينما يظلون في أعماق قلوبهم متمسكين بمعتقداتهم الدينية والمذهبية التي آمنوا بها طواعية ، وما أن تأتيهم الفرصة المناسبة للتمرد والثورة على السلطة الحاكمة فإنهم لا يترددون. كما أنهم لا يترددون عن إعلانهم تمسكهم بمعتقداتهم السابقة ..
فهذه التجربة السياسية السوفيتية في القرن العشرين خلال سيطرة البلاشفة الشيوعيين على السلطة في روسيا وتوسعهم وتمددهم وصولًا إلى السيطرة على العديد من الدول الاسلامية كأوزبكستان وطاجاكستان والشيشان وأفغانستان وغيرها ، وضمها بقوة السلاح إلى الكيان الجديد المسمى الاتحاد السوفيتي ، والعمل المنظم والممنهج لفرض الفكر الشيوعي بالقوة على شعوب تلك الدول ، واستخدام السلطات السوفيتية كل أشكال وصور البطش والعنف والارهاب لمحو المعتقدات الدينية لتلك الشعوب.
فالفكر الشيوعي يقوم على إنكار كل الأديان فهو يرى بأن الدين أفيون الشعوب ، لدرجة إن ممارسة الأفراد للعبادات الدينية كان بمثابة جريمة وخيانة لا تغتفر ، ولم يتردد البلاشفة الشيوعيين عن تدمير المساجد ودور العبادة وفي أفضل الأحوال كان يتم إغلاقها وتحويلها كمقار حكومية أو أماكن للترفية واللعب ، ولم يألوا جهدا في تشويه صورة الأديان بشكل عام والدين الاسلامي بشكل خاص.
نعم لن نبالغ إذا قلنا بأن السوفيت أعلنوا الحرب على كل ما له علاقة بالدين والتدين ، ورغم استمرار الاتحاد السوفيتي لعشرات السنين بممارسة تلك الوسائل القمعية والارهابية الغير مسبوقة إلا أن أبناء تلك الشعوب حافظوا على معتقداتهم الدينية ، بل إن تلك الممارسات القمعية والارهابية جعلتهم يتمسكون أكثر بمعتقداتهم الدينية ويمارسونها في السر ويحافظون عليها ويربون أجيالهم القادمة عليها في الرقابة المشددة والارهاب السوفيتي ..
وما إن إنهار الاتحاد السوفيتي وتلاشت سلطته القمعية وسطوته الارهابية ونالت تلك الشعوب استقلالها في بداية العقد الأخير من القرن العشرين ، حتى عادت تلك الشعوب لممارسة عباداتها وطقوسها الدينية ، وذهبت تلك الجهود والممارسات الهادفة إلى طمس هوية ومعتقدات تلك الشعوب أدراج الرياح. وهناك الكثير الكثير من هذه التجارب التي ثبت فشلها عبر التاريخ ، بل لقد وصل الحال ببعض الحكام إلى حفر الخنادق واشعال النيران فيها وتخيير اتباع الديانات الأخرى بين اتباع دينهم الجديد أو قذفهم إلى النار فاختاروا القذف في النار والموت حرقاً على تغيير معتقداتهم الدينية ( قصة أصحاب الأخدود أنموذجاً ) ، ولا يتسع المجال هنا للحديث عن تلك التجارب فهي كثيرة جدا ، وهي تملأ بطون الكتب التاريخية في كل زمان ومكان. فلماذا لم تأخد الأنظمة الحاكمة العظة والعبرة من هذه الأحداث والقصص التاريخية؟.. ولماذا تصر تلك الأنظمة عبر الزمان والمكان على تكرار تلك التجارب ، من خلال سعيها إلى فرض أفكارها ومعتقداتها الدينية والمذهبية على الآخربن بالقوة؟.. لماذا هذا الإصرار العجيب على تكرار الفشل؟!.
فالسيطرة على وسائل الإعلام وعلى منابر المساجد ودور العبادة ليست الطريق المثلى والناجحة لفرض الأفكار والمعتقدات على الآخرين ، بل إن السيطرة على العقول والقلوب هي الطريق الأمثل للقيام بذلك ، ولا يتم ذلك إلا بالقدوة الحسنة والسلوكيات المثالية والايجابية. هناك بعض من التجار الحضارم أدخلوا شعوب بأكملها في شرق آسيا ( اندونيسيا وماليزيا وغيرها ) إلى الإسلام بالقدوة الحسنة والسلوكيات الإيجابية والمثالية ، دون الحاجة للسيف والقوة والبطش والتنكيل والعنف والارهاب ، فمسألة اعتناق العقيدة أو المذهب أو الفكر مسألة عقلية اختيارية ، لا تترسخ ولا تستقر ولا يتم الإيمان بها إلا عن طريق الرغبة والقناعة والاقتناع التام. فلماذا تصر السلطات الحاكمة عبر تاريخها الطويل على سلوك التجارب الفاشلة التي تجعل من الإجبار والإكراه والقوة والبطش وسيلة لفرض معتقداتها الدينية والمذهبية؟. لماذا هذا الإصرار العجيب على تكرار الفشل؟ ، أم أن الشعور بالقوة وغرور السلطة وجنون العظمة عند القائمين على تلك السلطات في مختلف المراحل التاريخية ، هو ما يجعلهم يظنون أن باستطاعهم النجاح فيما فشل فيه السابقون؟! وفي اعتقادي أن هذا هو التفسير المنطقي الأقرب لتفسير هذه الظاهرة السياسية الغريبة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news