أعد الحلقة لـ”واي دي” محمد العياشي: يسلط “يمن ديلي نيوز
” في الحلقة التاسعة من “المستشرقون واليمن” الضوء على المستشرق الفرنسي “جورج سيرافان كولان” الذي كان له دورا بارزا في دراسة اللهجات العربية، لا سيما المغربية.
لكن اهتمامه لم يقتصر على المغرب فحسب، فقد جمع بين شغفه باللغات ومهام دبلوماسية خارج إطار وزارة الخارجية الفرنسية، ليجد نفسه في اليمن في عام 1929، في مهمة دبلوماسية تركت أثراً عميقاً في أرشيفه وإرثه.
من المغرب إلى اليمن: مسيرة متعددة الأوجه
وُلد كولان في 4 يناير 1893، وتوفي في 24 يناير 1977. بدأ مسيرته المهنية كطالب مترجم في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تعلم المهارات اللغوية التي كانت ستشكل مستقبله الأكاديمي.
في 1921، وصل إلى المغرب ليبدأ مسيرة طويلة في الدراسات الاجتماعية، حيث شغل منصب نائب رئيس قسم الاجتماعيات في طنجة، ثم مدير الدراسات في معهد الدراسات العليا المغربية في الرباط بين عامي 1926 و1958.
في 1927، عُين أستاذًا في مدرسة اللغات الشرقية بباريس لتدريس العربية المغاربية. وكان من أبرز أعماله “معجم العربية المغربية” الذي نُشر بعد وفاته في المغرب وفرنسا.
لكن شغفه باللغة لم يقتصر على التدريس. فقد بدأ مسيرته الدبلوماسية في 1925 كترجمان، ثم تدرج إلى الترجمان الأول في 1930، ثم قنصل في 1938، مستشار لشؤون الشرق في 1946، وصولًا إلى قنصل عام في 1952.
وهذه المسيرة قادته إلى واحدة من أبرز محطاته: مهمة دبلوماسية إلى اليمن في ديسمبر 1929.
في العاشر من ديسمبر 1929، رست السفينة الحربية الفرنسية “مونميراي” في سواحل الحديدة، حيث حملت كولان ورفيقه روبر مونتاني، المتخصص في لغات ومجتمعات المغرب، في مهمة دبلوماسية استثنائية.
وصل الثنائي إلى اليمن بدعوة من الإمام يحيى، الذي أبدى رغبته في إبرام معاهدة صداقة وتجارة مع فرنسا.
في الحديدة، تلقى كولان ومونتاني الدعوة لزيارة صنعاء، فشقا الطريق عبر مناطق وعرة على ظهور البغال، ووصلا في 17 ديسمبر.
لم تكن الرحلة مجرد عبور جغرافي، بل كانت فرصة غنية لكولان للغوص في ثقافة اليمن ولغاته.
خلال المهمة التي استمرت حتى 22 ديسمبر، التقى كولان مع الإمام يحيى، الذي سلمهم رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، عبر فيها عن تطلعاته تجاه فرنسا.
تقرير شامل: سياسة ولغة وثقافة
تقرير المهمة الذي أرسله كولان إلى وزير البحرية الفرنسي يتكون من جزئين رئيسيين. الأول يتناول تفاصيل الإقامة في الحديدة، زيارة صنعاء، واستقبال الإمام يحيى، أما الثاني فيحتوي على ملاحظات حول الوضع العام في اليمن، الصعوبات الميدانية، الوضع السياسي، وعروض المعاهدة مع فرنسا.
أرفق كولان التقرير بثمانية ملحقات تضمنت ملاحظات عن العملات اليمنية، المعاهدة التجارية الإيطالية-اليمنية، وتفاصيل عن الوضع السياسي في اليمن وعلاقاته مع الاتحاد السوفيتي.
انطباعات كولان عن اليمن
لم تكن المهمة بالنسبة لكولان مجرد عمل دبلوماسي، بل كانت نافذة على اليمن وثقافتها.
أعجب بتنوع اللهجات اليمنية، مشيرًا إلى وجود ثلاث فئات لغوية تتماشى مع التقسيمات الجغرافية والاجتماعية. كما أشاد بتاريخ اليمن البحري، مؤكدًا أن اليمنيين والحضارمة والعمانيين برعوا في الملاحة البحرية منذ قديم الزمان.
رغم هذه الانطباعات الإيجابية، سجل كولان بعض الملاحظات السلبية حول تحديات العمل في اليمن، مشيرًا إلى صعوبة إجراء أبحاث ميدانية بسبب الظروف اللوجستية.
كما أبدى قلقه من المنافسة الأجنبية، خاصة في ظل النشاط البريطاني والإيطالي في البحر الأحمر.
اللغة والاهتمام بالتفاصيل الميدانية
استغل كولان المهمة لتعميق دراسته للغات اليمن، حيث وثق لهجات مختلفة، منها لهجة قبيلة العمران في جنوب شرق العقبة، كما سجل مفردات صناعة المراكب في الحديدة، وكذلك مصطلحات بحرية في جدة. تجسد هذه الملاحظات شغفه الكبير بالتنوع اللغوي في المنطقة.
حصل “كولان” على مخطوطتين خلال زيارته لليمن إحدى هذه المخطوطات، محفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية تحت الرقم 7084، وتحتوي على مجموعة كبيرة من القصائد، يبلغ عددها أكثر من 700 قصيدة.
حوالي 80% من هذه القصائد مكتوبة بنمط “الحُميني”، وهو شكل من الشعر اليمني يستخدم لغة تقع بين الفصحى والعامية اليمنية، بينما الباقي مكتوب باللغة العربية الفصحى.
تُظهر هذه المخطوطة تنوع اللغة الشعرية في اليمن، وتُعتبر مصدرًا مهمًا لدراسة الشعر الحُميني وتطوره. من خلال جمعه لهذه المخطوطة، ساهم كولان في توثيق وفهم الأدب واللغة اليمنية خلال تلك الفترة.
رؤية مستقبلية وتحديات
في تقريره، أكد كولان ومونتاني على إمكانية تطوير علاقات تجارية مع اليمن، خصوصًا في مجالات الأسلحة والذخائر. ومع ذلك، أشار إلى صعوبة تنظيم بعثات علمية ميدانية، مقترحا استخدام جيبوتي كقاعدة لتعزيز النفوذ الفرنسي في مواجهة القوى الأوروبية الأخرى.
ذكريات مصورة من اليمن
لم تكن الملاحظات المكتوبة وحدها ما حمله كولان من اليمن، فقد التقط أيضًا 25 صورة نادرة في الحديدة، جيبوتي، جدة، ومصوع، فضلاً عن ثلاث صور لجدة وصنعاء. هذه الصور تبقى شاهدًا على تلك الرحلة التاريخية.
إرث محفوظ في فرنسا
بعد عودته إلى فرنسا، أهدت زوجة كولان ملاحظاته وصوره إلى المكتبة الوطنية الفرنسية في 1981، ليبقى إرثه محفوظًا كجزء من تاريخ الدراسات الاستشراقية، مؤكدة قدرته على جمع العلم بالدبلوماسية، مما جعل اسمه يرتبط باليمن وثقافتها الغنية.
المصادر
:
– كتاب “كنوز مدينة بلقيس” لـ “ويندل فيليبس”
– مقال للكاتب “لطف الصراري”
• تابعونا في الحلقة القادمة من سلسلة “مستشرقون في اليمن” لاستكشاف المزيد من القصص المثيرة عن الشخصيات التي شكلت تاريخ اليمن.
تابعونا غدًا في حلقة جديدة من سلسلة “المستشرقون واليمن”، حيث نستعرض انطباعات مستشرق آخر عن هذه الأرض العريقة.
👇
سلسلة حلقات “المستشرقون واليمن
”:
الحلقة الأولى: الألماني “نيبور” ورحلته إلى البلاد التي تحكمها التوازنات
الحلقة الثانية: “هاليفي” في رحلة استكشاف تاريخ اليمن تحت عباءة التسول
الحلقة الثالثة: رحلة البريطاني “برتون” إلى أرض النقوش والعادات الفريدة
الحلقة الرابعة: “ثيسيجر” الذي وجد أن السعادة الحقيقية في قلب الصحراء
الحلقة الخامسة: فيلبي “الحاج عبدالله” الذي ساهم في رسم ملامح الجزيرة العربية واليمن
الحلقة السادسة: “جلازير” النمساوي الذي ارتدى ثوب “التشيع” لنهب آثار اليمن
الحلقة السابعة: “مانزوني” في رحلة تكشف تطور صنعاء قبل عودة الإمامة إليها
المستشرقون واليمن.. “فريا ستارك” في مهمة الاستكشاف والتجسس لصالح بريطانيا (الحلقة الثامنة)
مرتبط
الوسوم
المستشرق الفرنسي
المستشرقون واليمن
جورج سيرافان كولان
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news