أعد الحلقة لـ”واي دي” محمد العيايشي:
في هذه الحلقة يأخذكم “يمن ديلي نيوز” في رحلة عبر الزمن إلى القرن التاسع عشر، برفقة الرحالة الإيطالي الشاب رينزو مانزوني، الذي زار صنعاء عام ١٨٧٧م.
من خلال كتابه “اليمن.. رحلة إلى صنعاء”، يروي مانزوني تفاصيل نادرة عن الحياة في اليمن تحت حكم العثمانيين، مع عرض لصور فوتوغرافية هي من أقدم الصور التي التقطت لليمن آنذاك.
رحلة مانزوني لم تكن فقط مغامرة اكتشاف، بل كانت أيضًا فرصة لتوثيق جماليات صنعاء ومدن أخرى، ورصد واقع الحياة الاجتماعية والسياسية آنذاك، موثقًا كل ما شاهده بتفاصيل دقيقة وأسلوب لاذع في بعض الأحيان، مما يعكس نظرة فاحصة لما كان عليه اليمن في تلك الحقبة الزمنية.
تابعونا في هذه الحلقة لاكتشاف جوانب من اليمن لم نسمع عنها من قبل.
رؤية مانزوني للحكام العثمانيين
في كتابه، يروي مانزوني عن الحاكم العثماني “بهرام باشا” الذي وصفه بأنه “حاكم عادل وماهر جدًا”. إذ أمر بشق طرقات كبيرة في أرجاء اليمن، وبناء جسور فوق الأنهار الرئيسية، وسدود لتطويق السيول.
كما عمل على تخفيف الضرائب عن الشعب العربي. وفي نفس السياق، أشار إلى إدارة أحمد مختار باشا كانت “حكيمة وإنسانية”، حيث شيد المستشفى العسكري في صنعاء، بالإضافة إلى ثكنات المدفعية في عدة مدن يمنية مثل الحديدة وتعز وزبيد وصعدة.
لكن مانزوني لم يغفل عن السلبيات التي رآها في حكم العثمانيين، حيث ذكر أن “الحكومة المركزية تمتص دماء الناس دون أن تعود بالفائدة عليهم، فتبقى الشعوب رهينة لجشع الحكام الأتراك الخبثاء”.
وأشار إلى الفارق بين الحاكم الأجنبي والمحلي، حيث قال إن الأتراك تركوا آثارًا إيجابية، بينما لم يترك الحكام المحليون إلا الدمار.
طبائع اليمنيين وحياة صنعاء
رغم مرور الزمن، يلاحظ مانزوني أن طباع اليمنيين ونمط حياتهم ظلا كما هما، وفي رحلته، تحدث سمعة السيئة التي كانت تلصق بالعرب والقبائل من ذمار إلى صنعاء، حيث وصفهم بالبخل والاحتيال.
ولكن لا ينسى أن يذكر الاستثناءات، إذ تعرض للمعاملة الطيبة من بعض المسؤولين في ذمار وقعطبة، وكذلك من رئيس الجمارك وعدد من الضباط.
الصور الفوتوغرافية الأولى لليمن
هذه الرحلة كانت أيضًا فرصة لمانزوني لالتقاط أقدم صور فوتوغرافية لليمن على الإطلاق.
تم التقاط هذه الصور عام 1877م باستخدام كاميرا بدائية، لكنها كانت الأحدث في عالم ذلك الزمان. ورغم أن التصوير الفوتوغرافي كان في بداياته، فقد ظهرت هذه الصور بأسلوب شبيه بالرسوم بسبب بدائية التقنية حينها.
ومن طرائف مانزوني في رحلته، عندما شارك الطعام مع اليمنيين في “بوعان” قبل وصوله إلى صنعاء، قال: “رأيتهم يلحسون أصابعهم بعد كل لقمة من العصيد، وبأصوات ذات رنة وطنّة، فقلت: لو كانت أصابع أحدهم خمسين إصبعًا لحسها جميعًا”.
صنعاء في نظر مانزوني
على الرغم من أن الأتراك لم يمضِ على وصولهم إلى صنعاء سوى بضع سنوات (في العهد العثماني الثاني بين 1870 و1917م)، أعجب مانزوني بنظافة المدينة، مقاهيها، ودكاكينها.
كما اكتشف وجود سوق روسي وآخر يوناني في قلب صنعاء، ما يعكس التنوع الثقافي الكبير في تلك الفترة.
وأشاد أيضًا بالمستشفى العسكري في صنعاء، الذي قال إنه يشبه المستشفيات الإيطالية.
كان يحتوي على 20 جناحًا و370 سريرًا، مع توفير كل سبل الراحة للمرضى، بما في ذلك ملاءات وطاولات بجانب الأسرّة، ولوحة على الجدار تعرض معلومات عن المرضى باللغة الفرنسية، حيث كان يعمل فيه ستة أطباء فرنسيين تحت إشراف طبيب تركي برتبة عقيد، بالإضافة إلى جراحين وصيادلة وممرضين.
مصير المستشفى العثماني
في مقال له بصحيفة “أخبار اليوم” في 29 أغسطس 2016، ذكر الدكتور خالد الرويشان كيف انتهى المستشفى العثماني في صنعاء بعد فترة من إنشائه.
فقد حوله الإمام يحيى إلى قصر له، وأسماه “دار السعادة”، وهو ما يُعرف اليوم بالمتحف.
وكان هناك اصطبل لخيول الأتراك حول المستشفى، وقد تم تحويله أيضًا من قبل الإمام إلى مستشفى أولًا، ثم إلى قصره.
التعايش بين الأتراك واليمنيين
مانزوني لاحظ التعايش السلمي بين الأتراك واليمنيين في صنعاء، وأشاد بحاكم صنعاء العثماني.
كما تحدث عن التعايش مع الجاليات الأجنبية مثل اليونانيين، الذين أداروا دكاكين في صنعاء. وأشار إلى أن اليمنيين عاملوا اليهود في المدينة بشكل جيد مقارنة بمناطق أخرى، مؤكداً على حسن معاملتهم لهم.
الفرق بين سكان المدن والبدو
في ملاحظاته، وضّح مانزوني الفرق بين سكان المدن والبدو في اليمن. فقد وصف سكان صنعاء بأنهم يتمتعون بذكاء ورقي اجتماعي، وكانوا يحرصون على نظافتهم الشخصية.
في المقابل، كانت حياة البدو في المناطق الريفية تختلف بشكل واضح عن الحياة المدنية في صنعاء.
خلاصة الرحلة
رحلة “رينزو مانزوني” إلى اليمن عام 1877م لم تكن مجرد رحلة سياحية أو سياسية، بل كانت مدفوعة بالفضول والتوثيق، قدّم من خلالها وصفًا نادرًا للحياة في اليمن، خاصة في صنعاء.
وقد انعكس إعجابه بالحياة المدنية في المدينة، مشيرًا إلى جمال عمرانها، شوارعها النظيفة، وتنوع الجاليات فيها. كما أكّد على التعايش السلمي بين الأتراك واليمنيين، وذكر العديد من التفاصيل التي تظل جزءًا من تاريخ اليمن في تلك الحقبة.
ختامًا، تبقى قصة المستشفى العثماني في صنعاء، الذي تحوّل لاحقًا إلى “دار السعادة” قصر الإمام يحيى، واحدة من أكثر التحولات التاريخية المثيرة للاهتمام في تاريخ اليمن.
المستشفى، الذي كان في يوم من الأيام رمزًا للتقدم الطبي في تلك الفترة، أصبح شاهدًا على التغيرات السياسية والاجتماعية العميقة التي مرّت بها البلاد. من مؤسسة طبية حديثة إلى قصر للإمام، تجسد هذه القصة كيفية تأثير الأحداث السياسية على البنية التحتية للمجتمعات. وفي النهاية، أصبح هذا المعلم التاريخي جزءًا من ذاكرة اليمن، حيث أصبح اليوم متحفًا يعكس تاريخًا غنيًا ومعقدًا.
صور نشرها مانزوني
المراجع:
“كتاب اليمن .. رحلة إلى صنعاء” للرحال رينزو مانزوني
مقال لخالد الرويشان نشرته صحيفة أخبار اليوم
تابعونا غدًا في حلقة جديدة من سلسلة “المستشرقون واليمن”، حيث نستعرض انطباعات مستشرق آخر عن هذه الأرض العريقة.
مرتبط
الوسوم
الفضلي
المستشرق الايطالي رينزو مانزوني
المستشرقون واليمن
الدولة العثمانية في اليمن
صنعاء
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news