من وحي ندوة البارحة في معهد التجديد
رمز، إشارة، دال، مدلول، دلالة، بمعنى لمّح أو أشار بالكلام أو الكتابة أو الإيماءة بالعين والشفاه والخد واليد والجسد. جاء في الأمثال الشعبية: رو الحليم النجد والثور العلم! لوّح لمن له قلب حاضر! تكفي الحليم الأشارة! أنا أشير له إلى القمر وهو ينظر إلى أصبعي! مثل صيني ويلخص الكاتب كولن سالتر أهمية العلامات التصويرية في مقدمة كتابه “100 رمز غير العالم” بالقول “تحمل الرموز معاني ومفاهيم تفوق شكلها الظاهر، وحتى الرموز الشائعة التي نصادفها يومياً، تجسد مفاهيم وتوجيهات يأمل مصمموها في أن تصل إلينا من دون الحاجة إلى شرح مفصل”.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن الإنسان كائن رمزي والرمزية هي السمة التي تميزه عن سائر الكائنات الحية فهو الكائن الوحيد الذي يحمل اسم لكي يعرف نفسه وبدون الاسم يستحيل التعريف. إذ يتواصل البشر فيما بينهم مستخدمين حزمة من الرموز المتعددة التي تتباين إلى حد كبير فيما تنقله من معلومات. فكلمة “حب” حينما ينطق بها تعني وجود رابطة حميمة بين كائنين وتعني الألفة والاتحاد والعيش معاً. وأنا أحبك كما يقول هيدجر ليس مجرد تعبير عن ذاتي.. بل هو الوجود يعلن ذاته ويتجاوزها إلى الآخر إنها تعني أن الفرد الموجود يتجاوز انغلاقه طلباً للآخر ويؤسس الحب في الخارج خارج الذات المنعزلة وأنا أحبك هي شمولية الوجود الذي لا يعي نفسه إلا شاملاً إنها الجزئي ظاهرياً والكلي جوهرياً.هذا معناه أن الكلمة ليست تعبيراً عن ذاتها، بل هي حاملاً لمحمول، هي صوت الجسد، هي رمز لشيء موجود، ولكنها ليست الشيء ذاته أبداً بل كما يقول موريس بلانشو، أن الكلمة في اللغات الأصيلة ليست تعبيراً عن شيء بل هي غياب هذا الشيء.. إن الكلمة تخفي الأشياء وتفرض علينا إحساساً بغياب شامل بل بغيابها هي ذاتها، وإذا أمعنا النظر في مملكة الرموز هذه أي اللغة سنكتشف أشياء مثيرة للدهشة بل أن فيها من السحر والإثارة ما يأسر اللب ويلهب الوجدان، فما معنى الكلمات التي نقولها ونعيدها كل لحظة، ما أصل الأسماء وما معناها، من أين جاءت هذه الرموز والإشارات التي نستدل بها عن الأشياء وهل مازالت تعبر عنها بالفعل أم لا؟ أسئلة وقلق كبير ومثير بدأ منذ عقود قليلة يستعر في فضاء الفكر والثقافة الأوربية المعاصرة حول اللغة وأهميتها اذ تنبه عدد كبير من الفلاسفة والمفكرون المعاصرون إلى ما تنطوي عليه هذه البنية الثقافية الشاملة من عناصر وأنساق ودلالات لم تكشف بعد رغم أهميتها الحاسمة وفائدتها العميمة لبناء الإنسان. إذ ظهرت في السنوات الأخيرة فلسفات كاملة وضعت اللغة في صلب اهتمامها منها البنيوية، والأنتروبولوجيا الثقافية، اللغوية في هذا السياق تم بحث الملابسات العميقة للتقابل بين الثقافة الشفاهية والكتابية اذ قام علماء الإنسان وعلماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء اللغة بأبحاث ميدانية من مجتمعات الشفاهية الثقافة وخرجوا بنتائج مذهلة وعلى درجة كبيرة من الأهمية حول نمط العلاقة بين الثقافة الشفاهية والكتابية وخصائص كل منهما. فلا شيء خارج الرموزإذ “إن الحركات المتعددة للجسد خلال التفاعل بين الأفراد (من حركات وإيماءات ووِضعات، ومن مسافة وتنقل…)، هي طقوس متجذرة في البنية العاطفية للأفراد. فهي، كما الكلام المنطوق أو الصمت المتخلل لمحادثة، ليست محايدة البتة أو تتسم باللامبالاة، إذ هي تفصح عن سلوك أخلاقي إزاء العالم، وتمنح للخطاب وللقاء هيئة تزيد من دلالتها” ( ينظر، دافيد لوبروتون – ترجمة: فريد الزاهي، اللغة والرمزية الجسدية في التواصل اليومي ٢٠٢٤) ولما كانت الرموز بكل تنويعاتها اللغوية الشفاهية والكتابية والجسدية ، بكل ما تعنيه من ابعاد ودلالات ثقافية واسعة هي جوهر الثقافة ومعناها العام ذلك لن المحصلة النهائية لـ”الثقافة” ثقافتك وثقافتي وثقافة كل إنسان هي مجموع اشكال ردود الافعال والتفاعل الرمزية التي توجد في نواتنا، والتي نسميها”القدرة على قراءة المعنى، فأننا سنولي عنايتنا لتحليل العلاقة التي يقيمها الناس مع “الرموز”وما تثيره من انفعالات مختلفة فيهم. فالكلمة الواحدة في لغة من اللغات تثير استجابات متنوعة ومتباينة عند الناس حتى وأن كانوا ينتمون الى اللغة ذاتها فقد نتفق على ما يعنيه لفظ “بحر” من الناحية النحوية ولكننا نختلف في معناها الدلالي، وربما اختلف وإياك في التدعيات التي تثيرها هذا اللفظ في ذاتي، فقد تثير لديك مشاعر الرهبة والخوف بسبب خبرة سابقة لك معه، اما انا فالبحر يحفز عندي مشاعر الفرح والهدوء والجمال. الخ. وجميع والإيماءات التي نستخدمها كل لحظة في حياتنا اليومية تنطوي على هذة الخاصية التعددية في اثارة الاستجابات المتنوعة عند اناس ينتمون الى مجتمع واحد.ولما كانت الرموز تختلف في معانيها هذا القدر من الاختلاف فلا يستطع أحد أن يحدد التفسير الصحيح والمعنى الجامع المانع للرمز اللغوي أو الجسدي الحركي، إلا في سياق التفاعل الاجتماعي والحوار الحي والمباشر، حيث لا يعرف احد ما يجب ان تكون عليه تلك الكلمة الاشارة قبل ان نلتقي بها ونواجها ونجربها ونعيدها مرات ومرات حتى نفهم معناها. أن كلمة “فأس” التي كانت ترمز الى الاداة الرئيسية لشعوب العصر الجحري القديمة،من الموكد انها لم تكن تعني فأساً بالمعنى الحديث أو اداة مختصة لقطع الأشجار. هذا يعني انه يستحيل معرفة معاني الكلمات حينما تنتزعها من سياقاتها الثقافية الاجتماعية المحلية أو القومية.كما يعني ايضا انه لا توجد معانٍ ثابتة وكاملة ومطلقة للرموز في كل زمان ومكان. لكن هناك نمط من الأشخاص غير قادر على معرفة هذة الحقائق البديهية، حيث تكتسب الكلمات لديهم معاني محددة سلفاً وثابتة، وتجدهم يطابقون بين الكلمة والشي الذي يعتقدون انها تدل عليه، يطابون بين الدال والمدلول، بين اللفظ والواقع الذي قد منحوه في وقت سابق من تاريخهم جل احترامهم أو تقديسهم أو نفورهم، ومن ثم تجدهم اكثر هياجاً عندما يتم ذكر هذا اللفظ بقليل من الاحترام أو النقد، أو الحديث عن اللفظ الذي كان يثير ردود فعل ساخطة عندهم، بشي من الاحترام.
وهكذا هي أهمية الرموز الحضارية والثقافية التي صارت اليوم محورا لعدد لا يحصى من التخصصات العلمية والثقافية (الأنثروبولوجية والفلسفة واللسانيات والسيمياء وعلم الاجتماع الرمزي وعلم الاديان وعلم النفس والدراسات الثقافية والنقد الثقافي .الخ) وهذا ما كنت اتوقعه من ندوة البارحة المكرسة لبحث (الرموز الحضارية المقارنة) ولكنها انصرفت للبحث قراءة التّأثير العربيّ الإسلاميّ في الفكر الغربيّ من خلال محاضرة أولى بعنوان” الحضارة االعربيّة الإسلاميّة وأثرها في تكوين الفكر الأوروبّي” محاولين الوقوف على دور الرّموز الحضاريّة في نحت مشهديْ الهويّة والمثاقفة من خلال محاضرة ثانية بعنوان “مدينة القدس وقراها في القرن السّادس عشر الميلادي”. وستتوّج النّدوة بتعقيب يُسائل النصّ وينشر صداه : لِمَ أبدع العرب المسلمون قديما وتأخّروا اليوم ؟ إلى أيّ مدى يمكن للمتون الحضاريّة أن تكون دافعا إلى التّجديد والإنجاز تأثيرا في الرّاهن ومجاوزة له؟ المشرف على النّدوة : د. زاهر حنني ، رئيس وحدة الدّراسات اللّغويّة والأدبيّة. مديرة النّدوة : أ.ريم الماجري، مقرّرة الوحدة المحاضران :د.محمود الحسينات د.محمّد يعقوب المساعدة. المعقّب : د. علي الشّبول.
ورغم أنني لم اجد فيها ما كنت أتوقعها منها فقد كان لها الفضل في تحفيز ذاكرتي فيما يشبه العصف الذهني لاعادة التفكير في أهمية الرموز
الحضارية كتب ميشل فوكو في الكلمات والاشياء “إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره ، هو ما يجعل عمليَّة التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلّبه من عنت وجهد ومن شكٍّ وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون”.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news