فيما يشبه التمهيد لندوة النهوض الحضاري
في البدء كان المكان ثم تكون الكائن فالمكان هو البعد الأساسي للكائن الحي. كون، كان، مكان ، كائن، كيان، كينونة، مكين، تمكين وغير ذلك من الأسماء والصفات التي تدل على المكان بوصفه كيانا مشخصا متعينا للعيان. فلا كيان بلا مكان وليس شخصا ذلك الذي لاينتمي إلى أي مكان. فالمكان هو الثابت الدائم الذي يمنح الإنسان كينونته الوجودية في هذا العالم. ولا كينونة خارج المكان، أنه الأرض أو السطح الذي يحتوي الأجسام كلها بوصفها كياناتا وكائناتا محسوسة ملموسة يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو بالتلسكوبات الرقمية. فلا شيء خارج الأمكنة التي تحيط بالكائنات من جميع الجهات. الأمكنة هي لغة الكينونة الأصلية التي تقول كل شيء دون أن تتكلم! صمتها يدل عليها وصخبها يمنحها هويتها. لغة بصرية وسمعية زاخر بالمعاني الدلالات المفعمة والأسطح والأبعاد والامتدادات والنتوءات والانحدارات والفضاءات والألوان والضلالات بالأنوار والظلمات. أنها قاع كل شيء وأصل كل كيان من الكون ذاته إلى أصغر ذراته. للأمكنة سطوتها وسلطتها القاهرة التي يستحيل الهرب منها أو تجاوزها فكل ما تستطيعه الكائنات بإزائها هو التكيف معها بإعادة تأثيثها بالوسائل الممكنة. وهذا هو كل ما يستطيع بلوغه الإنسان في هندسة المكان وتسويسه بما يجعله قابلة للعيش والتمكين أما الحيوانات فهي تعيش المكان بطبيعته الأصلية وبغريزتها الفطرية. الإنسان وحده عبر تاريخ الطويل الذي تمكن من منح المكان ملامحه الإنسانية بالفعل والنشاط والانفعال والبناء والتعمير والتنمية وبهذا المعنى يمكن القول أن الجغرافيا تحضر بصور شتى أما التاريخ فهو ذاكرة الزمان والمكان. لقد شكّل المكان منذ الكينونة الأولى لحياة الإنسان وما زال يشكّل وسيستمر محور الرهان الجيوبوليتيكي في صراع القوى الفاعلة على كوكب الأرض وهذا هو موضوع كتاب روبرت كابلان انتقام المكان.” ثمة مكانٌ جيدٌ لفهمِ الحاضر، ولطرح الأسئلة حولَ المستقبل، وهو أديمُ الأرض، مع السَّفر فوقها بأبطأ ما يمكن”(ينظر, روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد420، أبريل 2015).
وهذا يعني إن الجغرافيا هي الثابت النسبي الوحيد في الكون وهي بذلك تمنح الكائنات بعض ملامحها بجعلهم يتدبرون حياتهم بحسب ما تبيحه لهم من ممكنات وفرص العيش والمعيش وبهذا يتمايز الناس بحسب بيئاتهم الجغرافية الطبيعية فالبيئات الخصيبة تختلف عن البيئات القاحلة وسكان السهول يختلفون عن سكان الجبال وسكان المدن البحرية يختلفون عن سكان القرى الجبالية وسكان البوادي الخضراء يختلفون على بدو الصحاري الجرداء وهكذا هو الحال دائما مع الانسان والتاريخ في كل مكان وزمان فكيف نفهم المجتمع والثقافة.
تقوم حياة الناس الاجتماعية وتتشكل الجماعات والمجتمعات البشرية وتنمو وتستمر وتستقر وتزدهر في سياق اجتماعي تاريخي ثقافي علائقي تفاعلي يتكون من ثلاثة انساق أساسية؛ فاعل، علاقة ، بنية، ) وما ينجم عنها من مظاهر وظواهر وأشكال ورموز وقيم وتمثلات يعاد صياغتها وبناؤها باستمرار في خضم عملية ممارسة الفاعلين الاجتماعيين لحياتهم المتعينة ماديا ومعنويا واقعيا وافتراضيا بمختلف صيغ وصور وأنماط تمظهراتها العلائقية ؛ بين أنا _ أنت ، ذات _ أخر _ نحن _ هم وغير ذلك من اشكال العلاقات الاجتماعية المتغيرة باستمرار والتي لا تدوم على حال من الأحوال وتجلياتها المختلفة والتي بدونها يصعب الحديث عن الظاهرة الاجتماعية بوصفها ظاهرة قابلة للرؤية والدراسة والفهم. والإنسان يشترك مع غيره من الناس في كثير من الأفعال. ويشترك معهم بكل شيء ويختلف عنهم بكثير من الأشياء. الحالة الأولى هي موضوع العلوم الاجتماعية والثقافية والحالة الثانية هي موضوع علم الأحياء والعلوم المتاخمة والحالة الثالثة هو موضوع علم النفس والعلوم النفسية وكل فعل يتضمن فاعلين اجتماعية، ويسمى الفعل اجتماعيًا حينما يحدث بين فاعلين اجتماعين أو أكثر مهم ويسمى ذلك ميكروسوسيولوجية وماكروسوسيولوجية صغيرة وكبيرة. وكل فعل اجتماعي يتضمن علاقة اجتماعية، وحينما تتكرر تلك العلاقة تتشكل في بنية أو أطار أو مؤسسية. وحينما تزاوج آدام وحواء لأول مرة تكونت الأسرة النووية وبتكرار التزاوج بين الفاعلين والفاعلات الاجتماعيات عبر الألف السنين واستمرارها تكونت البنى الاجتماعية؛ بنية الأسرة والقرابة والعشيرة والقبيلة والقومية والأمة والإنسانية الأممية اليوم. والتعليم فعل تحول إلى علاقة بين الطالب والمعلم وبتكرار تلك العلاقة تحولت إلى مؤسسة ثم بنية ؛ الروضة والمدرسة والجامعة وكل مؤسسات التعليم والتربية التي لا يمكن لها أن تستمر وتدوم إلا باستمرار العلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين؛ التلاميذ والمعلمين . والدين مؤسسة تكونت عبر فعل العبادة بكل اشكالها وأنماطها. خذ أي ظاهرة أجتماعية وانظر اليه من زاوية نظر منهجية تكاملية ستجدها لا تخرج عن ذلك السياق العام. وبما أن المجتمع حالة متغيرة ومتحولة من حال إلى حال ولا تدوم في نقطة متجمدة فقد ميز علماء الاجتماع وأولهم أوغست كونت بين حالتين للظاهرة الاجتماعية؛ الحالة الديناميكية الحركية والحالة الاستاتيكية الثابتة نسبيًا.
في سياق هذه العناصر الجوهرية الثالثة تتنوعت المنظورات العلمية للظاهرة الاجتماعية فكل كائن إنسان في كوكب الأرض من حواء وآدم وأنت طالع يتشابه مع غير من البشر في كل شيء وهذا هو موضوع علم الأحياء ووظائف الأعضاء ويختلف عنهم في بعض الأشياء وهذا هو موضوع الدراسة الانثروبولوجية والاجتماعية والثقافية ويتميز عنهم في أشياء كثيرة جدًا، وهذه هو موضوع العلوم النفسية. ويمكن اجماع الموقف كله بالسؤال التالي: ماذا لو لم يخترع الإنسان الأدوات التقنية التي ساعدته على مواجهة تحديات الحياة الطبيعية؟ من المؤكد أنه كان سيظل كائنا طبيعيا مثله مثل الكائنات الحية الأخرى. أن أهم ميزة للإنسان تكمن في قدرته على الاكتشاف والابتكار فالبرد القارصة دفعته إلى التفكير في البحث عن الدفىء فاكتشف النار والحر الشديد دفعه للتفكير والبحث عن ظل يقيه الشمس والمطر فاكتشف الأشجار والاحجار والكهوف والمغارات وفي سبيل قطع النهر وصيد السمك اكتشف الخشب وصنع الزوارق والسفن ومن أجل مواجهة الوحوش والضواري ومنافستها في الحصول على قوته في الغابات والبراري اخترع القوس والنشاب والسهم والرمح. وفي سبيل استصلاح الأرض وزراعتها ابتكر الفأس والمنجل وادوات الحرث والري والزراعة وهكذا كان الحال مع مشكلات الحياة الاخرى وسبل حلها وتجاوزها وعلى مدى ملايين السنين من الخبرات والتجارب في علاقة الإنسان بالأشياء صارت التكنولوجيا هي أهم عوامل التغيير والتقدم والتطور. ومن لوح الخشب العائم تطورت السفن العملاقة ومن السهم الطائر تطورت الصواريخ الفتاكة ومن الحمام الزاجل تطورت وسائل الاتصالات والمعلومات ومن الكهف والمغارة نشأت ناطحات السحاب والحصون العالية ومن النار تطورت الكهرباء ومصادر الطاقة المعاصرة ولا شيء في تاريخ تطور الحضارة البشرية جاء من خارج علاقة الإنسان بالأشياء كان التاريخ قبل الثورة الصناعية يكرر ذاته بانماط متشابهه من الحركة الدائرية التقليدية التي تدور حول فلك القوى والشروط الطبيعة للحياة الأرضية بين الأرض والسماء بما تجود به من عناصر العيش وادواتها التقليدية الأولية ومنها( الأرض والمطر والزرع والثمر والريح والانهار والبحار والمحطات والحيونات) وهكذا ظلت علاقة الإنسان بالإنسان شبه ثابتة عبر التاريخ بينما تغيرت علاقة الإنسان بالأشياء. إذ يوجد نمطان للعلاقات : علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الانسان بالأشياء ، الاولى ثابتة ومستقرة ولم تتغير في جوهرها منذ هابيل وقابيل وبنية القرابة الاولى ، اذا ما زال الناس كما كانوا في أولهم يحبون ويكرهون ويتزوجون ويتقاتلون اي بكلمة يمارسون ذات السلوك الذي كان يمارسه الانسان الاول حواء وآدم واولادهما يتزاوجون وينجبون ويسعون في الارض ويفسدون ويتخاصمون ويسفكون دماء بعضهم بعضا في سبيل الحصول على الارزاق والخيرات والمصالح والحاجات وعلى مدى تاريخهم الطويل المفعم بالتنازاع والتقالب والصراع ظل التاريخ البشري محكوم بالقانون الطبيعي مقاومة الفناء والحفاظ على البقاء ! يدور حول محور القوة والحرب والربح والاحتكار وهكذا ظلت السياسة على مر الازمان هي الزمن الذي بمعنى أن الوجود السياسي للناس في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية، مثله مثل بنية القرابة، وكل لحظة من لحظات التاريخ السياسي للمجتمعات تمثل الدرجة الصفر؛ وكل جيل يمسك بالخيط من أوله، ويردد في الوقت ذاته أنه يبتدع هيستيريات تحقيق الذات، والهلوسات الجماعية، والفصامات الطائفية، والهذيانات الدفاعية، والأخرى التفسيرية… وكما أن المراهق يتعلم المضاجعة دون أن يعلِّمه إياها أحد، ولكن دون أن يمارسها افضل مما مارسها جدوده، فإن كل حقبة اجتماعية تعاود اختراع السياسة، وكأنها لم تكن قط، هي هي سياسة كل زمن، الإشكالية بصورة جوهرية. ويرى دوبريه أن هذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة، وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها، بنية التكرار. وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي بالطبع والتطبع ! وهكذا يمكن القول ان علاقة الإنسان بالإنسان ظلت راسخة النسيج ثابتة النسق وكل ما طرى عليها طوال ملايين السنيين لا يعدو بان يكون اكثر من ديكور اسمه الحضارة والتحضر تم اكتسابه اكتسابا بقوة السلطة والتربية والقانون وحينما تنهار السلطة والقانون في مكان من مجتمعات الإنسان يعود الناس الى سجيتهم الحيوانية الطبيعية الانانية الفطرية في حالة حرب الجميع ضدالجميع ! بينما علاقة الانسان بالأشياء شهدت وتشهد ثورات جذرية من التغير والتطور والتبدل والتنوع والارتقاء على على مختلف الأنحاء والمستويات الأفقية العمودية ، وبفضل تغيرها وتطورها تغيرت بيئة حياة الانسان على هذه الارض ، غير ان تغير هذه البئية لم يغير من النمط الأصلي للعلاقات الانسانية. التكنولوجيا هي التي غيرت العالم الإنساني وإعادة تشكيل ملامحه إلى الحد الذي بات يصعب التعرف على بداياته.
وكما إن المجتمع يتكون من ثلاثة قوى أساسية ( فاعل ، علاقة، بنية) فكذا هو التاريخ بوصفه سياق نشاط فعل ونشاط الانسان في اثناء تكيفه وردود افعاله ازاء المشكلات التي جابهته وتواجه اثناء ممارسة حياته في هذا العالم البشري على مختلف الصعد الحضارية والثقافية والمدنية.والناس تعيش التاريخ كما تعيش الاسماك في البحر ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج فالتاريخ هو مستودع الخبر الإنسانية في هذا العالم.
التاريخ الذي تعنية هو تاريخ الإنسان آدم وأبناءه أبن الأرض الذي خلقة الله من عناصر فاسدة وجعله يسفك الدماء ويفسد في الأرض أدنه تاريخ قابيل الذي بداء بجريمة قتل .أنه تاريخ الخوف والجهد والسعي والكد والصراع والتدافع والتنافس والتقالب والحرب والسلام والتعايش والحوار.
ولكل كائن في هذا الكون تاريخ واحد هو تاريخه الطبيعي الذي هو طبعة ونظام سلوكه وقواعده وقانونه . مقاومة الفناء ودفاع عن البقاء ولكن للإنسان تاريخين:
تاريخ طبيعي :يشارك به جميع الكائنات الطبيعية وتاريخ وضعي يضعه لنفسه ويضع فيه العلوم والآداب والفنون والسياسة والأخلاق والتشريع والزراعة والصناعة والعمارة. ولا يكون التاريخ إلا حركة وصراع وتكيف بالتطور وتطور بالتكيف ورد فعل واتخاذ موقف في مواقع محمية وتبرير المواقف وتحصين المواقع بما يحقق القوة والحماية والعافية والآمن والامان ولا يكون التاريخ إلى مجمل تاريخ صراع الإنسان ومواقفة إزاء الطبيعة الذي هو قصة تطوره الذي هو قصة تكيفه الذي هو رد فعل الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة بما فيها طبيعته هو التي هي أشد الطبائع عناداً وتمرداً على التطويع واستغلاقاً على الفهم والتاريخ تاريخان :تاريخ الضرورة والواقع والحياة وهو التاريخ الفعلي الذي يدور حول محول التجارة والحرب والاحتكار وتلك حقيقة لا خير ولا شر ولا خير ولا اختيار بل سنة من سنن الله سبحانه وتعالى وحقيقة من حقائق التاريخ فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء اقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب .
وتاريخ متخيل: تاريخ الحلم والأمل والرجاء والمثال الذي نريده ونتمناه ونحلم به يدور حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والعدل والخير والجمال للجميع.
والتاريخ هو تاريخ صراع وتدفع بين الناس قال تعالى:(لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين). سورة البقرة الآية 25.
وهذا ما أدركه أبن خلدون ببصيرته الثاقبة عندما عرف التاريخ بقولة: التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشئ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران لطبيعته من الأحوال).
وما عناصر التاريخ إلا وسائلة وأسبابه وغاياته وقواه التي يتطور بها صاعداً في معارج التقدم والتطور والارتقاء والتي هي:
1-
الثقافة علماً وأدباً وفناً:
وهي القوة الإبداعية في التاريخ وهي كل التطور الدائم المستمر في العلم وفي الأدب وفي الفن.
2-
الحضارة:
سياسة وأخلاقاً وتشريعاً وهي قوة التاريخ التنظيمية وهي كل التطور الدائم المستمر في السياسة والأخلاق والتشريع.
3-
المدنية:
زراعة وصناعة وعمارة وهي قوة التاريخ المادية السلعية وهي كل التطور الدائم المستمر في الزراعة والصناعة وفي العمارة والتعدين والتدجين ولا يكون التاريخ بهذا التعريف إلا مجمل خبرة الإنسان في الثقافة وفي الحاضرة وفي المدنية التي هي عناصر التاريخ التي منها يتكون ومنها لا من غيرها جميع قواه الفاعلة في جميع ظروف الزمان والمكان والحركة والفعل ورد الفعل والتطور والتكيف واتخاذ الموقف.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news