شيماء القرشي :
"كان أبي يعمل في إثيوبيا لعشرين عامًا، تتخللها زيارات متفرقة لنا (لعائلته)، وفي آخر زياراته بدا عليه الوهن وشدة المرض، ولم يتمكن من العودة إلى عمله في إثيوبيا، وتعين علينا عرضه على الأطباء لنكتشف الحقيقة الصادمة؛ والدي مصاب بفايروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وبعد معاناة المرض فارق الحياة على فراشه".
بهذه الكلمات تستهل وفاء (اسم مستعار – 28 عامًا)، قصة شقاء عائلتها، ووفاة أبيها، ثم والدتها التي نقل إليها العدوى القاتلة (بفايروس الإيدز)، دون علم كليهما.
تكمل وفاء: "حين علمنا بإصابة والدي بذلك الداء، تسلل الشك إلى قلوبنا، فأردنا فحص والدتي التي من البديهي أن تكون أيضًا حاملةً لعدوى الفايروس، لكنها رفضت".
"كانت تشعر بالشك والخوف ولم تجرؤ على مواجهة الحقيقة المؤلمة، إلى أن ظهرت عليها الأعراض وتأكد لنا إصابتها بالمرض.. استغرق الأمر خمس سنوات من المعاناة -بعد وفاة والدي- حتى توفت هي الأخرى جراء ذات العدوى".
وفاة والديَّ وفاء لم يعصمها من الوصم الاجتماعي والانتقاص الذي تقول إنها تشعر به أين ما ذهبت.
تستدرك وهي تبلع غصتها: "لو كان أبي أجرى فحصًا قبل عودته، ربما لم يكن لينقل العدوى إلى أمي ويتسبب بمعاناتها مرتين: مرة بغيابه، وأخرى بالمرض الذي نقله إليها ومكابدتها للألم بعد وفاته".
قصة والد وفاء ليست إلا واحدة من قصص كثيرة مسكوت عنها، محاطة بسياج صارم من الحذر والتحفظ، لأزواجٍ يمنيين نقلوا عدوى الإصابة بالإيدز -عن غير دراية غالبًا- إلى زوجاتهم، بعد عودتهم من بلدان مختلفة (غربة/ سفر/زيارة...).
مع الإشارة أن انتقال العدوى إليهم ليس بالضرورة دائمًا عن طريق الاتصال الجنسي كما هو الاعتقاد الشائع، إنما قد يكون عبر طرق ومسببات أخرى، كاستخدام أدوات الحلاقة الحادة.
وهذا الأخير هو الشائع بالنسبة لبعض المصابين اليمنيين العائدين من بلدان شرق إفريقيا التي تكون فيها العدوى منفلتة ومستوى الرقابة الصحية هزيلًا.
إدراك متأخر للإصابة
في ظل التكتم الشديد عن هذا الموضوع في اليمن، تعذَّر الحصول على إحصائية تحدد النسبة التقريبية لعدد النساء/الزوجات المصابات بفايروس (الإيدز).
كما أنه "لا يوجد مقياس يثبت مدى ازدياد أو نقصان نسبة المرض في اليمن، بسبب عدم وجود دعم لآليات الرصد والمتابعة، وكل ما تقوم به الحكومة هو توفير الأدوية المجانية للمرضى عبر نظام يحمي سرية المرضى"، بحسب حديث مدير الدعم النفسي في برنامج مكافحة نقص المناعة المكتسبة بصنعاء، محمد الكناني، لمنصة هودج.
يضاف إلى ذلك أن معظم الحالات التي تسنى الوصول إليها أو الاطلاع على قصصها خلال إعداد هذا التقرير، لم يكتشفوا إصابتهم إلا بعد مرور فترة غير قليلة من العلاقة الزوجية المعدية.
يذكر رئيس مختبرات الأهرام بمحافظة إب، عبدالقاهر السبئي، لـمنصة هودج أن كثير من المصابين ممن أجروا فحوصًا في المختبر يُنصدمون عند معرفتهم بإصابتهم ونقلهم المرض إلى زوجاتهم.
يقول: "يأتي أشخاص مصابون، ثم يجلبون زوجاتهم وابنائهم لنكتشف أن الإصابة انتقلت إليهم جميعًا دون علمهم".
ويضيف: "خلال عام 2024، أجرينا فحوصات مخبرية لنحو 7 أشخاص مصابين بالإيدز، منهم ثلاث نساء، هنّ زوجات لثلاثة أزواج مصابين نقلوا إليهنّ العدوى من غير قصد".
من بين هؤلاء حسين (اسم مستعار)، قضى ثلاث سنوات يعاني تدهورًا صحيًا مستمرًا، وكل مرة يذهب فيها إلى التشخيص الطبي تكون حالته متباينة؛ تارةً يعاني من ألمٍ في الكلى وتارةً يقال له إنه مصاب بالتيفوئيد، حتى أجرى فحص فيروس HIV لتكون الصدمة التي زلزلت ثباته.
نتيجة الفحص استثارت قلقه بشأن زوجته وأبنائه؛ جميعهم ذهب إلى المختبر، فكانت زوجته واثنين من أطفاله (بنت وولد) حاملين للعدوى، ما سبب له ألمًا نفسيًا أطفئ روحه، ولحقت به زوجته وأبناءه بسنوات.
يُرجع السبئي حدوث مثل تلك الحالات إلى عدم وجود "حجر صحي" للمصابين، وعدم اهتمام المشتبه بإصابتهم بعمل الفحوصات بشكل دوري تحاشيًا لحدوث العدوى.
نقل العدوى بدافع الانتقام
المؤسف، أن هناك حالات قصدية في نقل العدوى إلى الزوجات، ورغم محدوديتها وندرتها، لكنها مؤشر على وجود حالات انتقامية عن طريق تعمد نقل العدوى، وهو أحد أسوأ أنواع الأذى الذي قد تتعرض له الزوجة في علاقتها مع شريكها.
وذلك ما حدث مع السيدة س. م. (48 عامًا)، التي قالت إن زوجها نقل إليها العدوى بدافعٍ انتقامي، قبل أن يختفي نهائيًا ويغيب عنها بلا رجعة.
حاليًا تذهب السيدة "س. م." كل شهر لأخذ أدوية الإيدز التي تقوم الحكومة بصرفها للمصابين بشكل دوري، دون أن تتمكن من فعل شيء حيال الأذى المقصود الذي نالها من زوجها.
تقول لمنصة هودج: "تزوجتُ من شخص غير سوي، وحين علمت بذلك عدت إلى أهلي قبل وفاة والدي، وبعد وفاته أعادني أخي إلى زوجي قسرًا وضد رغبتي".
"بعد عودتي لزوجي كنت أتجنب معاشرته، لكن لم يدم ذلك طويلًا حتى وقع الأمر، ثم عدتُ إلى بيت أخي مجددًا، وبعد نحو شهر اتصل بي زوجي، وقال إنه مصاب بالإيدز، ونقله لي بتعمد انتقامًا مني لأني أخبرت الجميع عن سلوكه غير السوي".
الفحوصات ضرورة مُلزِمة
(الإيدز) من أخطر الأمراض الفيروسية التي تؤثر على الجهاز المناعي للإنسان؛ ما يجعله عرضة للإصابة بالأمراض والعدوى المختلفة.
وينتقل الفايروس بشكل رئيسي عبر الاتصال الجنسي غير المحمي، واستخدام الأدوات الحادة الملوثة، ونقل الدم المصاب، أو استخدام أدوات طبية غير معقمة، وأحيانًا من الأم إلى الجنين أثناء الحمل أو الولادة.
وفي ظل قلة الوعي بأهمية إجراء الفحوصات الدورية، خصوصًا للأزواج العائدين من خارج الوطن، تبقى نساء يمنيات كثيرات عرضة لنقل عدوى (الإيدز) إليهنّ، سواءً دون دراية أو عمدًا بقصد الانتقام والأذى.
تتضاعف هذه المعاناة نتيجة التكتم المجتمعي والوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض؛ ما يترك الزوجات في دائرة مغلقة من الألم والعار.
نشرت هذه المادة في
منصة هودج
،
صحيفة الوطن توداي
تعيد نشرها بناء على مذكرة تفاهم مشتركة تتعلق بنشر المواد الصحفية التي يتم إعدادها في إطار مشروع "يمانيات".
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news