كل الأحداث من حولنا وأبرزها الصراع الدائر في (الشرق الأوسط) حسب التوصيف الغربي، وغيرها من الصراعات المشتعلة في أماكن أخرى أو المرشحة للاشتعال، تكشف أن القلق لدى الغرب يتجه باستمرار نحو تلك الدافعية والجاهزية النفسية لدى بعض الشعوب لممارسة المجابهة الاضطرارية، وكفاحها في سبيل الإبقاء على ديناميكيات التثوير الحمائية فاعلة لوقاية نفسها من الهيمنة والمحو.
هذا القلق الغربي الحائر المتغابي بدأ منذ أن واجه الكفاح ضده في الجزائر وليبيا وعدن والصومال، وغيرها من البلدان التي تعرضت للاستعمار وتساؤلاته المتعالية.
ويعيدنا التغول المتصاعد للغرب في منطقتنا إلى حديث صدام الحضارات. وإلى التساؤل لماذا يفترض الغرب هذا الصدام ولماذا يعتبر أن دفاع الآخرين عن كينونتهم ضد ما يهددهم صدامًا؟! وهل على جميع الثقافات أن تستسلم بهدوء وأن ترفع الراية وتقبل بما يتم فرضه عليها في كل المسارات؟
يستوقفني كثيرًا ويحيرني هذا السلوك الغربي المتمثل في الاستنكار المضمر أحيانا والمعلن في أحيان أخرى لتنفس ثقافات ومعتقدات العالم بعيدا عن أوكسجينه الملوث بنوايا كتم أنفاس الشعوب وسحق خصوصياتها.
ويتناسى كثيرون أن من حق مختلف الأمم الدفاع عن وجودها وعن حقها في أن تبقى مكتفية بإرثها الذي له ما له وعليه ما عليه. دون أن يعني ذلك اتفاقنا مع جمود هذه الثقافات، ومع حقها في أن تبلور خياراتها وتحولاتها النابعة من داخلها، بما يحقق لها الانسجام الحضاري مع تاريخها ومع تطلعات مجتمعاتها.
يبدو التناقض الجوهري في الموقف الغربي تجاه الشعوب الأخرى فاقعًا ومستفزًا ولا يخفي الرغبة في فرض الهيمنة بمنطق يتعالى على الجميع. فبينما يتغنى الغرب بقيم الحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير، نراه يستغرب – بل ويستنكر أحياناً – تمسك الثقافات الأخرى بهويتها ودفاعها عن كينونتها.
يتجلى القلق الغربي في مظهرين أساسيين:
أولاً:
استغراب الجاهزية النفسية العالية لدى بعض الشعوب للدفاع عن نفسها وعن أرضها وعن هويتها، حتى لو تطلب الأمر مواجهة القوى المهيمنة التي لا توازيها في القوة ولا تبلغ مستواها من حيث القدرة على المحو والإزالة بجبروت ينعدم في مركزه الضمير، أو أنه ضمير انتقائي لا يرى البشر بعين واحدة. وكأن المطلوب من هذه الشعوب أن تستسلم لمنطق القوة وتتخلى عن كل شيء وهي مبتسمة مرحبة بما يتم فرضه عليها ومضحية باستقلالها وخصوصيتها الثقافية!
ثانياً:
الانزعاج لاستمرار “ديناميكيات التثوير” – أي الرغبة في التغيير والدفاع عن النفس – رغم كل محاولات التدجين والتطويع. وهنا يبرز السؤال: ألا يحق للشعوب أن تختار طريقها بنفسها وأن تواجه محاولات سحقها وفرض الوجود الأجنبي الإكراهي على أرضها وفي وعيها؟
ولا يملك أحدنا إلا أن يصرخ: يا للهول؟ هل بلغ بنا الحال أن نضطر إلى مناقشة الحقوق البديهية؟
وبالعودة إلى مقولة “صدام الحضارات” التي طرحها صامويل هنتنغتون، تشير كل الوقائع إلى أن تلك المقولة لم تكن مجرد تنبؤ، بل كانت في جوهرها تعبيراً مباشرًا ومبكرًا عن المخاوف الغربية من فقدان الهيمنة الثقافية والحضارية. فالغرب الذي طالما اعتبر نفسه مركز العالم وحامل مشعل “التنوير” يجد صعوبة في تقبل فكرة وجود نماذج مختلفة تصر على البقاء والاستمرار، مهما كان نقدنا لها وجلد ذواتنا قائمًا بشأنها.
من الواضح في هذا السياق أن الغرب يرفض تقبل حقيقة بديهية مفادها أن التنوع الثقافي والحضاري طبيعة المجتمعات على هذه الأرض وأن في هذا التنوع الكثير مما يثري الإنسانية. تمامًا مثل التنوع البيولوجي الذي لا بد منه لاستمرار الحياة، يبقى التنوع الثقافي ضروريًا لتطور إيجابي منتج في حياة الأمم بفضل الاختلاف وعدم التشابه.
لكن الغرب الذي يدّعي احترام التعددية يستغرب ويستنكر تمسك الآخرين بهويتهم وثقافتهم، ويشعر بالرهاب كلما رأى أن حق الاختلاف مكفول للجميع، وليس شرطا أن يتوافق اختلافهم مع ما يخدم تسويق الغرب لمنتجاته ومع ما يتطابق مع رؤيته الأحادية للعالم.
في الوقت نفسه يصعب التفاؤل بمحاولات الروس والصينيين والهنود تشكيل محور عالمي موازي، لأن هذه القوى لديها كذلك أطماعها و(بقالتها) المفتوحة على شوارع العالم، وتكاد منافستها للغرب ان تنحصر في المستوى الاقتصادي بينما تشترك معه في تبني خطاب هيمنة ثقافية لا تعترف بحق الآخرين المناقضين لها، وتتشاءم بدورها من أي تنظير للتنوع والتعدد.
وما من سبيل لتخفيف الضغط والحد من هذا الجنون المتصاعد غربيا إلا بتخلي الغرب عن نظرته الاستعلائية تجاه الأمم والشعوب الأخرى وإدراك حقيقة أن الدفاع عن الهوية والخصوصية الثقافية ليس “تطرفاً” أو “تخلفاً”، بل حق أصيل من حقوق الشعوب.
وبالتالي فإن المجابهة التي يراها الغرب في أي مكان من العالم كما لو أنها جرأة ووقاحة غير مقبولة، تبقى دفاعًا مشروعًا عن الذات، وستبقى ديناميكيات ورؤى التثوير التي تزعجه فاعلة ومعبرة عن إرادة الحياة والبقاء لدى الشعوب التي ترفض أن يطالها مصير الهنود الحمر، كما ترفض كل الضغوط التي تحاول أن تضعها في سلة أشكال مختلفة من الاستهداف الذي يفضي إلى مرحلة الذوبان والاندثار.
والحال ينطبق على كل الشعوب الحرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. وما نحتاجه اليوم في العالم ليس منظومة “ثاد” للدفاع الجوي كتلك التي وهبتها الولايات المتحدة لحليفها وذراعها وكيانها المدلل في منطقتنا، بل نحتاج إلى الاعتراف بحق كل الشعوب في الحرية والعيش بسلام، ونحتاج إلى حوار حضاري حقيقي قائم على الاعتراف بحق الاختلاف، والنظر إلى التنوع الثقافي والحضاري بوصفه ليس تهديداً يجب محاربته، بل خصوصية وطبيعة بشرية لا يمكن محوها أو فرض نماذج متعالية عليها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news