تلك اللوحة الفنية للرسام الإسباني بيردل بوريل. تقول أشياء كثيرة جدا وتلخص تاريخ الفلسفة كله؛ منذ كهف أفلاطون حتى باراديم توماس كون: ومن ما قالته اللوحة: انك عندما تخرج من الإطار الذي صنعه لك المجتمع بأوهامه الكثيرة ومنها؛ أوهام القبيلة” تتصل بالطبيعية البشرية بوصفها مقياسا لجميع الأشياء. ومن ثم فأفكارنا هي صور عن أنفسنا أكثر من كونها صور للأشياء. ومن طبيعة الفهم الإنساني أنه يفرض في الأشياء التشابه أكبر ما يجده فيها من الاختلاف.
أوهام المسرح: ومصدرها السلطة المعنوية للشخصيات الشهيرة أو سلطة المعتقدات القديمة…. وتتمثل هذه الأوهام في الحالة التي نقوم فيها بالاعتقاد من دون وعي بشيء ما فقط لأن قائله فلان أو أن يتحول رأي فلان إلى حجة غير قابلة للنقد أو التشكيك… لذلك سماها بيكون أوهام المسرح لأنها تتربع على خشبة مسرح الأفكار بوصفها نماذجا مقدسة ممثلة للحق والحقيقة المطلقة على غرار أن المثل السائر: الأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف!.
وأوهام الكهف إذ أن كل ذات إنسانية ترى الأشياء بعين طبعها وطبيعتها بحسب قدرتها على الفهم والإدراك والمزاج. بعض العقول مثلًا تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف والتباين في الأشياء أينما وجدت، وبعض العقول بطبيعتها تركيبية تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء. وبعض العقول تميل كثيرًا إلى تقدير كل ما هو قديم، وبعضها تحتضن بحماس كل أمرًا جديد، والقليل منها تستطيع الاحتفاظ بالحد الوسط، فلا تقضي على ما أوجده الأقدمون من أمور صحيحة ولا تنظر بعين الاحتقار إلى الاختراعات الجديدة، لأن الحقيقة لا تعرف تحيزًا أو تحزبًا. والطائفة الرابعة من الأوهام هي: أوهام السوق؛ سوق الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها الرمزية لأن الناس يخاطبون بعضهم بعضًا عن طريق اللغة التي فرضت كلماتها على الناس وفقًا لعقلية أهل السوق والعامة. حيث ينشأ عن سوء تكوين هذهِ الكلمات وعدم موافقتها تعطيل شديد للعقل. فالألفاظ تتكون بطبيعة الحال طبقًا للحاجات العملية والتصورات العامية، فتسيطر على تصورنا للأشياء، فتوضع ألفاظ لأشياء غير موجودة بالفعل، أو غامضة أو متناقضة، وهذا يحدث كثيرًا في المناقشات فتدور كلها على مجرد ألفاظ.هذه الأوهام هي تصيب كل الذوات البشرية بهذا القدر أو ذاك. فضلا عن الأوهام الأخرى التي منها؛ المبالغة والكذب والاشاعة والتهويل والتهوين والتعصب والتمييز والاحتقار أو التقديس والإجلال. وتلك حالة طبيعية للذات الإنسانية العاقلة إذ أن العقل البشري وهو يحاول التعرف على ما حوله من ظواهر العالم لا يعود كما ذهب بل يرجع محملا بالحقائق والأوهام والأصنام والأوثان في كل زمان ومكان. تلك البنية الصنمية الوثنية للعقل الإنساني ظلت ترافق الإنسان مثل ظله بتنويعات لا حصر لها من عبادة الطواطم ثم الأوثان والأصنام وارواح الموتى إلى أن هداه إلى إلى التجريد فجردها في التوحيد المتعالي للوجوس والخير الأسمى والمحرك الذي لا يتحرك والخالق البارع المصمم الأوحد الذي إذ تصوره غير موجودًا نجم عن تصورك محال.
حينما تتحرر من الأوهام ستندهش وستندم على كل لحظة عشتها في الكهف الجماعي وفرض عليك بمُسمّى ” الأُطر و والعادات والتقاليد. لاحظوا الدهشة البريئة بعيني هذا الفتى المتوثب للقفزة الأخيرة؛ دهشة أكتشاف العالم بعيون جديدة بعد أن خرج من الكهف المظلم ورائه حافي القدمين! تلك الدهشة الذكية الممزوجة بالفرح البداية في عينيه وهو ينظر ألى العالم المضئ تحت وانفراج الشفتين قليل وكانما هو يرى العالم لأول مرة. لاحظوا قبضتي يديه اليسرى القابضة على حافة الإطار الخارجية واليمني القابضة على الحافة المظلمة للإطار مع ظهور أصبع الإبهام وهي ترمز إلى الثقة العالية بالنفس بعد أن وضع قدمه اليمني على حافة الإطار بقوة وثبات الواثق من نفسه الذي ينظر إلى الأمام فقط وقد تناسى كل شيء ورائه. واللصدر العاري البادية قسمات أضلاعه وقد تطهرت من أدران الكهف لها الف معنى ومعنى. لم يبقى إلا القدم اليسرى في الداخل التي تبدو سوداء في وضع التأهب للوثبة الرشيقة الأخيرة وقد شمر الرداء . وأشياء وأشياء أخرى يمكن رصدها في هذه اللوحة الفنية العبقرية. واصحاب النقد الفني الجمالي هم الأكثر دراية بالدلالات والمعاني.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news