أعد التقرير لـ”يمن ديلي نيوز” – محمد الحميدي:
بعد انتظار طويل، رُزق ماجد بمولوده الأول، أسامة، لكن الحلم سرعان ما تحوّل إلى كابوس.
يقول ماجد، وهو نازح من محافظة عمران ويعيش في مخيم الجفينة بمأرب أكبر مخيم للنازحين في اليمن: “كنت أنتظر مولودي الأول بفارغ الصبر، لكن بسبب نقص الأكسجين أثناء الولادة، تعرض أسامة لتلف في خلايا دماغه، ما أدى إلى إعاقته”.
تتكرر مأساة نقص الأكسجين عند الولادة، مخلفة وراءها أطفالًا يعانون من إعاقات دماغية دائمة، وأسرًا ترزح تحت أعباء تفوق قدرتها على التحمل، خاصة في ظل النزاعات المستمرة والتدهور الاقتصادي الذي تعاني منه اليمن منذ أكثر من عقد.
تلك الأسر التي كانت تنتظر لحظات الفرح بقدوم مولود جديد، تجد نفسها تواجه أوقاتًا مريرة من الألم والقلق بسبب مضاعفات خطيرة ناجمة عن نقص الأكسجين أثناء الولادة، هؤلاء الأطفال، الذين تعرضت أدمغتهم لتلف دائم، يحتاجون إلى رعاية خاصة، غير أن تدهور النظام الصحي في البلاد يجعل من الصعب على أسرهم الحصول على الدعم والرعاية اللازمة.
أسامة… فرحة لم تكتمل
يتحدث ماجد أن الإهمال الطبي في المستشفى كان واضحًا، حيث تم الاعتماد على قابلات متدربات يفتقرن للخبرة اللازمة، ولم يكن هناك اهتمام كافٍ بطفله بعد يوم من الولادة، تطور لدى أسامة صفار شديد، لكنه لم يُعالج بالشكل الصحيح، مما زاد من مضاعفات حالته، بعد أربعة أشهر، تبين أن الطفل يعاني من ضمور دماغي أثر على قدرته على السمع والحركة.
رغم المعاناة، بدأ ماجد بتوفير الرعاية لطفله من خلال جلسات علاج طبيعي ثلاث مرات أسبوعيًا في مؤسسة إيلاف بمأرب، إلى جانب زيارات لمراكز الأطراف الصناعية بمستشفى هيئة مأرب، لكنه فقد ثقته تمامًا في النظام الصحي، ويؤكد: “لم أقدم أي شكوى، فقد وكلت أمري لله”.
عباس: خسارة طفل وعبء آخر
لم يكن ماجدا وولده أسامة هما الوحيدان اللذان عاشا هذه التجربة المريرة، فهنا عباس البحري (30 عامًا)، نازح من محافظة ذمار، يسكن في مدينة مأرب واجه مأساة أخرى مع طفله محمد بعد فقدان طفله الأول في ولادة طبيعية، بسبب نقص خدمات العمليات القيصرية في المستشفيات الحكومية، اضطر عباس إلى نقل زوجته إلى مستشفى خاص، لكن الولادة تأخرت مما تسبب في نقص الأكسجين لطفله محمد.
تم نقل الطفل إلى مستشفى كرى العام بمديرية الوادي في محافظة مارب حيث بقي في الحضانة لمدة أسبوعين، ولكن الضرر كان قد وقع بالفعل، عباس يصف مشاعره المتضاربة بين الفرح والحزن “لا يمكن وصف شعور فقدان طفل ثم استقبال طفل معاق”، مضيفًا أن بعض الأطباء أرجعوا السبب إلى إهمال أثناء العملية، ومع أن أمل محمد في الحياة يبدو ضعيفا إلا أنه لا يزال يخضع لجلسات العلاج الطبيعي في انتظار الفرج.
أحمد وطفله أيمن في تحديات العلاج
في هذا التحقيق حاولنا أن نتتبع أكبر قدر من حالات الأطفال الذين كانت الوفاة مصيرهم أو الإصابة بإعاقات دائمة بسبب نقص الأكسجين الذي تعرضوا له بعد الولادة في مستشفيات مأرب، أحمد هو الآخر نازح آخر من محافظة ريمة، يسكن في مدينة مأرب يروي قصة مماثلة عن طفله أيمن الذي تعرض لنقص الأكسجين بسبب مماطلة طبيبه في إجراء عملية لزوجته، بعد نقل زوجته إلى مستشفى كرى العام، تمت الولادة بشكل طبيعي، لكن أيمن كان قد تعرض لتلف دماغي.
رغم الصدمة، تحسنت حالة أيمن بفضل جلسات العلاج الطبيعي، يقول أحمد: “الحمد لله، إصابة ابني لم تكن بالغة، لكنه لا يزال يعاني من إعاقة حركية”، أحمد يضيف: أن الإهمال الطبي والمماطلة كانا السبب الرئيس في تدهور حالة طفله.
أسباب نقص الأكسجين وتداعياته
تحدثنا إلى عدة أطباء بحثا عن أسباب نقص الأكسجين عند الولادة ومضاعفاته، يرجح بعضهم الى لأسباب متعددة، منها مشاكل في الحبل السري أو ارتفاع ضغط الدم عند الأم، وقد يؤدي إلى تلف دماغي دائم.
د. محمد يحيى طبيب أطفال في محافظة مأرب، يوضح أن “بعد مرور 3 دقائق من الحرمان من الأكسجين، من المرجح أن يتعرض الدماغ لأضرار جسيمة وبعد 10 دقائق، يصبح التلف دائمًا وبعد 15 دقيقة، تكون احتمالية البقاء على قيد الحياة أو التعافي ضئيلة جدًا”. ويضيف أن الأعراض تظهر غالبًا خلال الأشهر الستة الأولى من العمر.
كما يشير الدكتور يحيى إلى أن تشخيص هذه الحالات يتطلب وجود طاقم طبي مؤهل وخبير، وهو ما يفتقده القطاع الصحي في مأرب بشكل عام، تظهر الأعراض المبكرة لنقص الأكسجين في شكل أزرقاق وتشنجات عند المولود، ما يستدعي تدخلاً عاجلاً لتجنب التلف الدائم في الدماغ.
ويؤكد طبيب المخ والأعصاب عبدالله قاسم، على أهمية دور الأكسجين في نمو خلايا الدماغ بعد الولادة، وأن نقص الأكسجين يؤدي إلى ضمور الدماغ وتلفه، مما يؤثر على تطور الجهاز العصبي ونمو الطفل، وإعاقات حركية وعقلية دائمة. “معظم الإعاقات تؤدي إلى شلل حركي، وغالبًا ما يكون رباعيًا، يرافقه تأخر عقلي يشمل تأخرًا في الكلام والقدرات المعرفية”.
ويضف “أن أفضل وسيلة للكشف المبكر عن الأضرار هي التصوير بالرنين المغناطيسي، على الرغم من كونه مكلفاً وغير متاح دائماً. ومع غياب العلاجات الفعالة، يبقى العلاج الطبيعي الوسيلة الوحيدة لتحسين حالة هؤلاء الأطفال.
الإهمال الطبي وضعف الرقابة
تؤكد الدكتورة ابتهال بامخرمة، أخصائية نساء وتوليد، أن القطاع الصحي يفتقر إلى الرقابة الفعّالة على أقسام التوليد والطوارئ، وأن عدم التدخل في الوقت المناسب يزيد من احتمال وقوع مضاعفات خطيرة، وتشدد بامخرمة على ضرورة متابعة الحمل بانتظام للكشف عن عوامل الخطورة وتفادي المضاعفات.
تشير الدكتورة بامخرمة إلى أن تدريب القابلات بشكل فعّال يمكن أن يقلل من حالات نقص الأكسجين، مؤكدة على أهمية وجود كوادر طبية متخصصة في الطوارئ التوليدية لضمان الرعاية المثلى للأمهات والأطفال.
“تشخيص هذه الحالات يتطلب كوادر طبية مؤهلة ومتخصصة تمتلك خبرات عالية، ومع ذلك، يعاني القطاع الصحي في مدينة مأرب من ضعف الخبرات ونقص المختصّين في الكوادر الطبية، كما يوضح أطباء التقيت بهم.
نقص الكوادر وارتفاع للحالات
وفقًا للإحصائيات التي حصلنا عليها من مكتب الصحة في محافظة مأرب لعام 2023، وُلد (13,900) طفل، منهم (371) طفلًا تعرضوا لاختناق ونقص في الأكسجين. بينما شهد النصف الأول من عام 2024 ولادة (9,312) طفلًا، منهم (222) تعرضوا للمشكلة نفسها.
اتخذ مكتب الصحة خطوات لمواجهة هذه الظاهرة، منها تفعيل نظام إحالة للأطفال المواليد تحت إشراف طبي، وتوفير أجهزة شفط في المراكز الصحية، وتدريب العاملات الصحيات في الطوارئ التوليدية.
يشير الدكتور أحمد العبادي، مدير مكتب الصحة في مأرب، إلى أن المحافظة تعاني من نقص حاد في المعدات الطبية، حيث يوجد فقط جهازين للأكسجين لحديثي الولادة في مستشفيات مأرب، وهو عدد غير كافٍ لتلبية احتياجات المحافظة المتزايدة.
بالرغم من هذه التحديات، يؤكد العبادي أن مكتبه يعمل على تدريب القابلات وتحسين نظام الإحالة بين المستشفيات، مشيرًا إلى أن 95% من عمليات الرعاية الصحية تعتمد على دعم المنظمات الدولية، وهو ما قد يتسبب في انهيار القطاع الصحي في حال توقف الدعم.
مع الاعتماد الكبير على دعم المنظمات الدولية، يحذر الدكتور العبادي من انهيار القطاع الصحي في مأرب بحلول نهاية عام 2024، حيث توقف 27 مرفقًا صحيًا عن العمل بعد وقف التمويل من المنظمات، وانخفضت حوافز الكوادر الصحية بنسبة 65% خلال العام الماضي.
وفي تقرير لمنظمة الصحة العالمية لعام 2024، هناك حاجة ملحة لتوفير 77 مليون دولار أمريكي لتقديم المساعدات الصحية الأساسية في اليمن، حيث يحتاج أكثر من 17.8 مليون شخص-نصفهم من الأطفال- إلى مساعدة صحية.
العلاج الطبيعي.. الأمل
تترك الإعاقات التي يسببها نقص الأكسجين لدى الأطفال سواء كانت إعاقات دائمة أو مؤقتة أضرار نفسية بالغة لدى الأطفال وأهاليهم.
يتحدث الدكتور مهيوب المخلافي، أخصائي نفسي، عن الآثار النفسية العميقة التي تتركها الإعاقة الناتجة عن نقص الأكسجين على الطفل وأسرته، ويضيف المخلافي أن الطفل قد يصاب بالإحباط والعدوانية بسبب عجزه عن تلبية احتياجاته بنفسه، وهو ما يؤدي إلى توتر داخل الأسرة، حيث تتحمل الأسرة ضغوطًا نفسية هائلة نتيجة التزامها الكامل برعاية الطفل.
وهنا قد يخضع هؤلاء الأطفال للعلاج الطبيعي الذي يلعب دورًا أساسيًا في تحسين حالة الأطفال الذين يعانون من تلف دماغي ناتج عن نقص الأكسجين. يوضح الدكتور علاء العربي، أخصائي العلاج الطبيعي في مركز الأطراف الصناعية التابع لمركز الملك سلمان” أن العلاج الطبيعي يساعد الأطفال على تحسين الحركة والتوازن، وتقوية العضلات، ويعمل على تحسين القدرة على الزحف والمشي”.
ويضيف العربي أن العلاج الطبيعي يجب أن يبدأ في وقت مبكر لضمان أكبر قدر من التحسن، مشيرًا إلى أن بعض الأطفال قد يستجيبون للعلاج في غضون أشهر قليلة، بينما قد يحتاج آخرون إلى علاج مستمر لعدة سنوات.
سمية يحيى، مختصة النطق والعلاج الكلامي في مركز مأرب التأهيلي، أكدت أن نقص الأكسجين يؤثر بشكل كبير على تطور النطق لدى الأطفال، فهؤلاء الأطفال غالبًا ما يواجهون صعوبات في تكوين الجمل أو نطق الكلمات بشكل صحيح، وأوضحت أن العلاج الكلامي يلعب دورًا كبيرًا في تحسين قدرات هؤلاء الأطفال، وبيّنت أن التفاعل اليومي مع الطفل والتحدث معه بوضوح يمكن أن يساعده على تحسين نطقه تدريجيًا.
إلا أن العلاج الطبيعي في مأرب تحديدا، ومع تزايد أعداد السكان الذين بلغوا 3.059.752 بحسب التقرير الصادر عن الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين الصادر في مارس 2024، يواجه العديد من التحديات، حيث يوجد مركز حكومي للعلاج الطبيعي، بالإضافة إلى مركز الأطراف الصناعية في مستشفى هيئة مأرب العام، إلى جانب مؤسسة إيلاف ومركز مارب التاهيلي.
جهود مستقلة
بالرغم من أن الجهود الذاتية التي تبذلها المؤسسات مثل “مؤسسة إيلاف” ومركز الأطراف الصناعية إلا أن الأعداد الهائلة للأطفال الذين يعانون من إعاقات بسبب نقص الأكسجين تفوق الإمكانيات المتاحة، فمنذ عام 2019، استقبلت مؤسسة إيلاف أكثر من 1004 حالة، منهم 247 حالة اختناق. وخلال عامي 2024-2023، استقبلت المؤسسة (388) طفلًا، منهم (91) تعرضوا لاختناق أثناء الولادة.
وتلعب مؤسسات مثل مؤسسة إيلاف لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة دورًا كبيرًا في تقديم الدعم لهؤلاء الأطفال، حيث تقدم المؤسسة جلسات علاج طبيعي ونطق، وتسعى إلى تحسين قدرات الأطفال البدنية والذهنية، وبالرغم من قلة الإمكانيات، إلا أن المؤسسة حققت نتائج ملموسة في تحسين حياة العديد من الأطفال.
الحاجة إلى تدخل عاجل في ظل الوضع الصحي المتدهور في اليمن، وبخاصة في محافظة مأرب التي تستضيف أعدادًا كبيرة من النازحين، حيث يجب أن يتم اتخاذ خطوات جدية لتحسين النظام الصحي وتوفير الموارد اللازمة لمنع تكرار مثل هذه الحالات المؤلمة، تحسين تدريب الكوادر الطبية وضمان توافر الأجهزة الطبية الأساسية في المستشفيات يمكن أن يقلل من عدد الأطفال الذين يعانون من إعاقات دائمة بسبب نقص الأكسجين أثناء الولادة، بينما تلعب المنظمات المحلية والدولية دورًا مهمًا في تقديم الدعم الصحي، تبقى الحاجة ملحة لتدخل أكبر من قبل المجتمع الدولي والحكومة اليمنية لتحسين الوضع الصحي وتوفير الرعاية اللازمة للأطفال حديثي الولادة، لا سيما في المناطق التي تعاني من نقص حاد في الموارد.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية.
مرتبط
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news