ظاهرة التسول في اليمن من الظواهر الاجتماعية المتفاقمة، التي تعكس الوضع الاقتصادي و السياسي المتدهور في البلاد. كانت هذه الظاهرة موجودة قبل الوحدة، لكنها ازدادت بشكل ملحوظ بعد الوحدة اليمنية، وتفاقمت أكثر مع استمرار النزاعات المسلحة التي أثرت سلباً على مختلف جوانب الحياة. تسهم الحروب في تدهور الاقتصاد، وازدياد الفقر، وتهجير الأسر، وكل هذا خلق بيئة خصبة لانتشار التسول بأنواعه المختلفة.
التسول قبل الوحدة وبعدها:
قبل الوحدة، كانت ظاهرة التسول منتشرة في بعض مناطق الشمال انذاك حيث كان الفقر والتهميش الاجتماعي يدفعان البعض للتسول. أما في الجنوب، كان التسول أقل شيوعا، وكان مقتصرا على البعض من الفئات المهمشة القليلة، مثل "الأخدام". كانت الحكومة الجنوبية تسعى لتعزيز العدالة الاجتماعية، وتوفير فرص العمل والتعليم، مما أسهم في تقليل التسول مقارنة بالشمال.
لكن بعد الوحدة، بدأت الأوضاع الاقتصادية تتدهور و تخرج عن السيطرة، خاصة بعد حرب 1994 وما تلاها من أزمات اقتصادية. أدى ذلك إلى انتشار الفقر والبطالة في كلا الشطرين، وأصبح التسول وسيلة يلجأ إليها البعض لتأمين احتياجاتهم الأساسية. ومع انتقال العديد من المواطنين من الشمال إلى الجنوب وخاصة إلى محافظات عدن، لحج، ابين، حضرموت زادت أعداد المتسولين بشكل ملحوظ في هذه المحافظات الجنوبية الكبرى وتباعا لذلك باقي المحافظات مما جعل هذه الظاهرة كابوسا حقيقيا يؤرق جميع سكان هذه المحافظات، اينما تذهب و اينما تتجه تجد المتسولين امامك.
اسباب انتشار ظاهرة التسول
1. الخلافات السياسية و النزاعات المسلحة ودورها في تفاقم الظاهرة:
لعبت النزاعات المسلحة في اليمن دورا كبيرا في تفاقم ظاهرة التسول. الحرب الأهلية المستمرة منذ سنوات طويلة أدت إلى نزوح الملايين من اليمنيين من مناطقهم، و خاصة حجة، الحديدة، تهامة ما جعلهم يعيشون في ظروف اقتصادية مزرية. هؤلاء النازحون، الذين فقدوا منازلهم ووسائل رزقهم، أصبحوا يعتمدون على التسول كوسيلة للبقاء. الكثير منهم يقفون في الشوارع والأسواق وفي المساجد والمستشفيات والجامعات، متسولين باسم الحاجة إلى العلاج أو تأمين مأوى أو سداد ديون حتى أصبح الكثير منهم يأتي من غير النازحين لامتهان التسول.
و الغريب في الامر أن هؤلاء النازحين في فترات الاعياد الإسلامية يعودون بمئات الآلاف إلى مناطقهم الأصلية الذي يدعون أنهم نزحوا منها وتكاد المحافظات الجنوبية تخلو منهم في ايام الأعياد.
2. الفقر المدقع:
الفقر هو العامل الأساسي الذي يدفع الكثيرين للتسول. مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وتوقف الرواتب وارتفاع الأسعار، يضطر الكثير من الناس للجوء إلى التسول.
3. البطالة:
ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وعدم وجود فرص عمل كافية يجعل البعض يلجأ للتسول كوسيلة لتأمين احتياجاتهم.
4. الجهل وقلة التعليم:
العديد من المتسولين يفتقرون للتعليم والمهارات التي تمكنهم من الحصول على عمل لائق، لذلك ينخرط غالبية هؤلاء بامتهان التسول، و البعض منهم يرتكب مخالفات جنائية مثل النصب و السرقة وبيع الممنوعات و الاتجار بالبشر وغيرها، غياب تطبيق القانون الذي يجرم التسول، شجع هذه الفئات من الناس في الاستمرار في التسول.
لم يعد التسول مجرد طلب المال في الشوارع، بل تطور ليأخذ أشكالا منظمة و ممنهجة منها:
1. تسول رجال القبائل باسم المصلحة العامة: بعض القبائل في اليمن تقوم بجمع الأموال من المواطنين والتجار تحت مسمى "المصلحة العامة" أو لدعم أنشطة القبيلة. ويعتبر هذا ايضا شكلاً من أشكال التسول، حيث يستخدم البعض مكانتهم الاجتماعية أو القبلية للحصول على المال.
2. التسول من أجل العلاج: كثيرون يتسولون بحجة أنهم يحتاجون إلى أموال لعلاج الأمراض الخطيرة، مثل السرطان أو لإجراء عمليات جراحية. يظهر هؤلاء أمام المستشفيات والمراكز الصحية ويعرضون تقارير طبية حقيقية أو مزيفة، لاستدرار تعاطف الناس.
3. التسول لسداد الإيجار: في ظل الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار الإيجارات، تجد بعض العائلات نفسها عاجزة عن دفع إيجار المنازل، فتقوم بالتسول لجمع الأموال لتسديد هذه الالتزامات والايجارات حسب زعمهم.
4. التسول المنظم: هناك من اعتاد على التسول وأصبح يمارسها كوظيفة يومية. هذا النوع من التسول يكون أكثر تنظيماً، حيث يقوم بعض الأشخاص بتوظيف النساء والأطفال والشيوخ، ويدربونهم على طرق استدرار العاطفة والحصول على المال من المارة. هؤلاء المتسولون يدفعون جزءاً كبيرا من حصيلة تسولهم اليومية إلى المشرفين عليهم مقابل حمايتهم وتوفير المأوى لهم.
أن القوانين اليمنية تمنع التسول وتعتبره جريمة يعاقب عليها القانون. تنص المادة 202 من قانون الجرائم والعقوبات لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقا على "المعاقبة بالسجن مدة لا تزيد عن سنة كل شخص يتسول في الطريق العام أو الأماكن العامة". كما تُجرم القوانين أيضًا استغلال الأطفال في التسول، وتعتبر ذلك من أشكال الاتجار بالبشر. ولكن في ظل غياب سلطة مركزية قوية، وضعف الأجهزة الأمنية والقضائية بسبب النزاعات المسلحة، لا يتم تطبيق هذه القوانين بفعالية، ما يؤدي إلى تفشي الظاهرة بشكل أكبر.
البعد الاقتصادي للتسول وتأثيره على الاقتصاد الوطني:
ظاهرة التسول تؤثر على الاقتصاد الوطني بشكل غير مباشر. عندما يعتمد عدد كبير من الأفراد على التسول بدلاً من العمل المنتج، يتقلص النشاط الاقتصادي، ويزيد العبء على الدولة والمجتمع. التسول يقلل من إنتاجية اليد العاملة، كما أنه يفاقم من الاعتماد على المساعدات الإنسانية بدلاً من تنشيط الاقتصاد المحلي. بالإضافة إلى ذلك، فان التسول يزيد من معدل البطالة كما ان زيادته في الأماكن العامة تؤثر سلباً على صورة المدن وعلى قطاع السياحة، وتقلل من الجاذبية الاستثمارية للبلاد.
الحلول المقترحة:
للحد من ظاهرة التسول في اليمن، يجب التركيز على معالجة الأسباب الجذرية التي تدفع الناس إلى التسول. من بين الحلول المقترحة:
1. تحسين الأوضاع الاقتصادية: ينبغي على الحكومة والمجتمع الدولي التركيز على تحسين الاقتصاد اليمني وتوفير فرص عمل للعاطلين.
2. توفير برامج الرعاية الاجتماعية: يجب توفير دعم مادي للفئات الأشد فقراً من خلال برامج دعم حكومية أو دولية، مثل توزيع المواد الغذائية أو توفير السكن للأسر النازحة.
3. تعزيز التعليم: التعليم هو أحد أهم وسائل مكافحة الفقر والجهل، وبالتالي التقليل من ظاهرة التسول. يجب الاستثمار في التعليم وتوفير برامج تدريب للشباب لتمكينهم من دخول سوق العمل.
4. تفعيل القوانين: يجب أن تكون هناك جهود فعلية لتطبيق القوانين التي تمنع التسول، مع مكافحة استغلال الأطفال والنساء في هذه الظاهرة.
٥. والأهم من ذلك إنهاء النزاعات المسلحة و إيجاد الحلول والمعالجات لإصلاح الأوضاع السياسية.
ظاهرة التسول في اليمن تعكس تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها البلاد. ومع استمرار النزاعات المسلحة، تتفاقم هذه الظاهرة لتصبح أكثر تعقيدا، ما يتطلب جهودا جماعية من الحكومة والمجتمع الدولي لمعالجة الأسباب الجذرية والحد من انتشارها.
د/ عارف محمد عباد السقاف
استاذ اقتصاد الاعمال المشارك
كلية المجتمع/ عدن
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news