هناك بعض الكتابات التي قامت بتوثيق الحرب التي شنها الحوثيون وقوات المخلوع صالح على عدن والجنوب بشكل عام سنة 2015، وذلك من خلال الاتكاء على شهادات وقصص واقعية سلطت الضوء على المعاناة التي عاشها أبناء الجنوب أثناء فترة تلك الحرب، التي بدأت في أواخر مارس 2015 عندما سيطرت قوات شمالية على مطار عدن الدولي ومناطق واسعة في المدينة، وظلت المقاومة الشعبية الجنوبية تسيطر على مساحات محدودة في المدينة.
وخلال السنوات القليلة الماضية صدرت بعض الأعمال الأدبية الخيالية التي صورت بعض أحداث تلك الحرب، لعل أبرزها رواية الأديبة عيشة صالح: (تحت الرماد)، التي ستصدر قريبا عن مطابع اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، والتي نقدم في السطور الآتية قراءةً أولى لها.
مثل معظم مؤلفي روايات الحرب استوحت مؤلفة (تحت الرماد) جزءا كبيرا من أحداث روايتها من وقائع الحروب التي شنتها ولا تزال تشنها القوات الشمالية المتحوثة منذ سنة ضد الجنوب 2015، وتصور فيها الحقائق والفظائع التي عاشها ويعيشها سكان مدينة عدن خلال فترة تلك الحرب، وذلك من وجهة فتاة من بنات عدن: رغد . إضافة إلى ذلك تتميز هذه الرواية أنها تمزج بين السرد بضمير المتكلم أنا (في بداية الرواية باستثناء صفحة واحدة) والسرد بضمير الغائب في الجزء الثاني من الرواية.
تبدأ الرواية بفصل بعنوان (الماضي)، تسرد فيه الراوية رغد بطلة الرواية بعض الأحداث المرتبطة بطفولة أمها التي تربت يتيمة في قرية رساب بيافع، وتكتب فيه: “أخبرتني أمي عن طفولتها الهانئة عندما كانت تعيش في “رساب” قرية من قرى يافع الخضراء المتكئة على وادي رساب الخصيب، شمال عدن، مع أبيها وأمها وأخويها الذين يكبرانها، أسعد يكبرها باثني عشر عاما، أما حسن فالفرق بينهما ثمان سنوات. ولم يكن أحد يجرؤ على إغضابها فهي مدللة أمها وأبيها، وكم كان أخويها يعمدان إلى ملاعبتها وإضحاكها كمقدمة لحاجة لدى أبيهم، أو لتحنين قلب أمهم حين يقترفان خطأ، كانا وغدين منذ الصغر. مرارا تخبرني أمي عن تلك الأيام كطيف جميل يلوح في الأفق، أو صورة من صور الجنة عالقة في ذاكرتها، تستدعيها من حين لآخر، لتعيش لذة الذكريات التي كادت تتحول إلى خيال جميل ولو لدقائق، تخبرني عن رائحة خبز أمها الذي لا يضاهيه خبز أي امرأة”.
وتتحدث الراوية كذلك عن العلاقة السيئة بين أمها بزوجها (والد رغد)، الذي لم يكن يرغب في الإنجاب وتكتب: “مضت الأشهر التسعة وجئت إلى الحياة، رغما عن كل محاولات التخلص مني … ليتك يا أمي أطعت أبي في هذا الأمر فحسب، هذا الشيء الوحيد الذي اتفق مع أبي فيه، أنه ما كان علي أن أولد، كيف عساي أن أعيش وأنا الكارثة بالنسبة لأبي والغلطة لأمي؟”
ولا تتحدث رغد كثيرا بعد ذلك عن أبيها الغائب دوما عن البيت العائلي، وتكتب: “اجتزت سنوات عمري بين أم منهكة نفسيا وجسديا، وجدة لا تقل إنهاكا، سبعون عاما وهي تطل على الدنيا والدنيا تأباها، فكيف لا تضع بصماتها عليها، أما أبي لا نراه إلا في زيارات متقطعة ولا يعلم أحد إلى أين يذهب أو ماذا يفعل؟”.
ثم تسرد رغد بعض تفاصيل طفولتها في كريتر عدن برفقة أمها وجدتها، وتذكر أنها ملت تلك الحياة وظلمة البيت وتفضل البقاء طويلا في الشارع، وتقول: “هروبي إلى الشارع كان وسيلة لتحاشي البقاء مع أمي وجدتي لأنهما تشعرانني بالألم والحسرة، لمجرد النظر إليهما، ناهيك عن سماع شكواهما إلى بعضهما البعض التي لا تنقطع يوما، لا يمر يوم دون أن أسمع “يا حسرة، الموت أهون لي ولا هذه العيشة” “ولا أحد يرجى منه فائدة” ما الذي ورطني بهذا كله” يا رب خراجك”. وكنت مرارا أرى الدموع في عيني أمي ولا أعرف ما الذي عليّ فعله لأنهي ذلك، أو التخفيف من معاناتها. دائما ما أشعر بأن هناك شيء ما ينبغي أن يحدث ليتغير كل شيء ولا أعلم ما هو وكيف يحدث؟ فأهرب إلى الشارع لتجنب رؤية الحزن في عيني أمي، وتنهيدات جدتي مشاعري مختلطة ومتضاربة، أشفق على أمي حين أرى البؤس في عينيها، ثم تنقلب المشاعر إلى كره، نعم كنت أكرهها في بعض الأحيان، أخجل أن أقول ذلك”.
وتذكر رغد أنها كانت تلميذة متميزة تجيد التعبير، لهذا فهي تسرد لنا قصتها بسلاسة، وتؤكد: “كنت محبة للتعليم، وأعشق حصة التعبير، خلاف بقية الطلاب حيث يتذمرون منها، لاسيما حين يكون التعبير حرا، كنت أكتب كلاما يفوق سني، أكتب عن مشاعري التي قد لا يفهما أحد، وأبتكر قصصا عشتها في أحلام يقظتي، حين أكتب أشعر أنه قد نبت لي جناحان، أحلق بهما حيث أشاء. كنت أبذل ما بوسعي للتفوق ليس للنجاح فحسب، كنت أتوق إلى ترتيب أعلى بكثير مما كنت عليه، كنت أغبط زميلتي عندما أرى مشهد الاحتضان والتصوير في يوم توزيع الشهادات، رغم أني متقدمة عنها في المركز إلا أني لا أجد عشر الحفاوة التي تجدها. أحببت المدرسة والشارع وأي مكان آخر إلا البيت، أشعر فيه بالاختناق، أشعر أنه مكان مخصص للحزن، لا بهجة فيه ولا سرور، لم يكن لدي القدرة على وضع المسميات في مكانها وتوصيف الأمور، كنت أشعر أنني أريد حياة أخرى فحسب، غير هذه التي أعيشها”. ص22
وبما أن رغد فتاة عصامية فقد بادرت إلى البحث مبكرا عن عمل، وتذكر: “ما كنت أنتظر من أحد أن يهبني شيئا ولا مائدة تهبط من السماء، بل كان اعتمادي على نفسي سبيلي منذ صغري، فقد عركتني الحياة وعلمتني من دروسها قبل أواني. فاشتغلت في العديد من المتاجر المنتشرة في مدينة كريتر، متجر المثلجات، متجر الزينة، متجر العطور ، وغيرها … وكنت أحسن عادة الادخار والتخطيط لمشاريعي الخاصة، فكان أول مشروع فكرت به ونفذته وأنا في الثالثة عشرة، مشروع لوحات الفلين، فكنت أعمد إلى اختيار صور وطباعتها بأحجام مختلفة وقص ألواح الفلين ولصقها عليه وبروزتها بشكل أنيق مع تعليقة أو مسند خلفي، فأجد كثير من الزبائن الذين يرغبون في شرائها، وبعضهم يختار هو الصورة فأشتغل عليها، ومشروع آخر أبدعت فيه وهو صناعة أساور الخرز والنمنمات، كانت مشاريعي الصغيرة تلك تشعرني أني كبيرة متفوقة على أقراني، عندما أفتح صندوقي الصغير الذي أدخر فيه”.
ثم تتناول الراوية رغد إرهاصات حرب ٢٠١٥، وتكتب “مرضت أمي ولا أعلم ما هو مرضها على التحديد، ولكنها أصبحت هزيلة منهكة تلزم الفراش معظم الوقت، وجدتي أزداد قلقها وتوترها الذي كان يتزايد مع أزمة الوضع العام للمدينة، ففي مستهل العام ٢٠١٥، في مرحلة الدراسة الثانوية، بدأت إرهاصات الحرب، وبوادرها تفعل فعلها، حتى اندلعت الحرب وأصبحنا قاب قوسين من الهلاك… كانت معارك الحرب تقترب أكثر فأكثر من منزلنا، ويبدو أننا كنا على بعد أمتار قليلة فقط من شرارة قد تحول حياتنا رأساً على عقب”. ص٢٧ وتضيف: ” 2015 عام الفزع؛ كنت في سن السابعة عشرة، محاطة بضغوطات الدراسة الثانوية، ولكن بدلاً من أن تكون مرحلة من الاكتشاف والطموحات، كانت تراكم على عاتقي تلك الأحداث المروعة، بدأت إرهاصات الحرب تتصاعد، كما لو كان الظلام يعلن بكبريائه عن فعلته الوشيكة، وكل يوم يثبت تواجدها بشكل مزعج. وفي لمح البصر، اندلعت الحرب بكامل قوتها، وأصبحنا نعيش على وشك الهلاك… ساد البلاد هدوء غريب تلك الليلة من ليالي شهر مارس وكأن الهواء نفسه قد شعر بالتوتر المتزايد. بدأ صدى الانفجارات يصدح في الأفق، ولكن لم يكن هذا الأمر غريبا في تلك الأوقات العتيقة. ومع مرور الوقت، رأينا أنفسنا محاطين بأنباء مروعة، حتى كريتر أصبحت جحيما وسط هذا الجحيم، لم تعد الحياة اليومية شيئا مألوفا. الروتين اليومي الذي كان يملأ المنازل بالحياة والنشاط تحول إلى انتظار كئيب حتى البسمات والدموع أصبحتا تشاركان نفس السطر الواحد. وهكذا، تغلغلت ميليشيات الحوثي في حياتهم، استفحال الأمراض، وقتل الأحلام، وتفتيت حواس الأمان. وسط كل هذا، وفي ضوء الدمار واليأس، تجد رغد نفسها تكافح للبقاء قوية لأجل عائلتها، وتسعى لرسم بصيص من الأمل في سماء الكرب.
وبشكل مفاجئ يظهر في صفحة واحدة 33 من الجزء الأول السرد بضمير الغائب، إذ تكتب الراوية: “في قلب الحصار الخانق الذي فرضته الميليشيات الحوثية وقوات صالح على مدينة كريتر، كانت عائلة رغد وكل العائلات تواجه صعوبة يومية في الحصول على الغذاء، بدأت رغد تشعر بالمسؤولية تجاه أمها وجدتها وهي تراهما عاجزتين أمام وضع أكبر مما تطيقان، خرجت في منزلهم في أوقات خطرة في سبيل العثور على اللقمة التي تطعم بها عائلتها، وقد بات ذلك يضع ضغطا إضافيا على عائلتها، خصوصاً والدتها التي كانت تكافح مع مرضها المتفاقم. بينما كانت تتجاهل أو تخفي عن عائلتها حقيقة ما تمر به من صعوبات، كان القلق والترقب يلتف حول زوايا كل بيت في كريتر… قلقة على صحة والدتي وجدتي ومتوترة بشدة، بدأت أشعر بأن الأمور انقلبت رأسا على عقب. لم نكن نعرف كيف يمكننا البقاء على قيد الحياة في وسط هذه الفوضى. البحث عن الطعام والدواء أصبح جزءا لا يتجزأ من يومنا، فالحصار الخانق الذي فرضته المليشيات الغازية جعل حصولنا على أبسط متطلبات الحياة تحديا شاقا، ومعاناتنا لم تكن تعرف حدودا…” ص33
ثم تواصل رغد السرد بضمير المتكلم، وتكتب: “هذه المرحلة الرهيبة كانت مفصلية في حياتنا، بل في حياتي أنا، لم أعد كما كنت”. وثم تسرد بعض الأحداث التي رافقت نزوح العائلة وكثير من سكان كريتر إلى خارجها، وتصف لنا بعض المشاهد المؤلمة التي خلفها قصف الحوثة للمدينة، قائلة: ص39 “أسندت رأسي على النافذة مرسلة بصري إلى البعيد، تارة أطالع آثار الدمار التي تترامى صورها خلف الحافلة، وأخرى أشرد بذهني إلى استحضار يوم النزوح وذكراه المؤلمة التي لا تنفك عن مخيلتي، عدت بذاكرتي إلى يوم خروجنا ، كان يوما غير عادي غادرنا فيه المدينة ثلاثتنا دون أبي خنقت المدينة من كل الاتجاهات على ما تبقى من سكانها، فقد غادر معظمهم قبل اشتداد الأمر تحسبا لهذا الوضع من حصار وانقطاع كل الإمدادات، لا كهرباء ولا ماء ولا غاز الطبخ ولا أي وسيلة وقود، كل شيء بات ينفد حتى مخازن الأدوية خلت من أدويتها المهمة… روائح في كل الأرجاء لأدخنة قذائف الهاون والمدفعية التي تباغتنا زخاتها صباح مساء، وتوديعنا للشهداء بات روتينا يوميا … كانت جدتي متماسكة أو هكذا أظهرت لنا، على الدوام تبث روح الصمود فينا، تحاول كتم مشاعر الفزع والقلق حتى لا تضاعف من هلعنا أثناء الغارات، لم نكن قادرات على المغادرة مبكرا والنجاة بأنفسنا للتكلفة الباهظة وعدم وجود السند والمعين في آن واحد. في إحدى الليالي التي كنا نتوجس بدء الغارات، إذا بالباب يقرع على غير عادة، ولم أجرؤ على فتحه، كنت محشورة خلف الكنبة ألتمس مكانا آمنا يقيني من جنون الشظايا، أدركت أني أخشى الموت، أو أني لا أريد أن أموت بهذه الطريقة، ما زالت هناك أشياء كثيرة أريد أن أفعلها قبل الموت، أيها الموت ليس الآن ولا بهذه الطريقة. أمي ممدة فوق الكنبة غير عابئة، وجدتي على الكنبة الأخرى، قامت تمشي في الظلام الذي لم ينتهكه ضوء”. ص40 وتواصل السرد على النحو الآتي: “بعد نصف ساعة عم هدوء ما بعد القصف كالعادة، ولما انقضت دقائق الترقب، سمعنا جلبة من الخارج، لا شيء جديد هكذا بعد كل غارة يخرج الناس ليعاينوا الضحايا من الشهداء والجرحى، فانسلت جدتي وأمي من تحت السرير بحذر، وبقيت أنا تحته تحسبا لمعاودة القصف. ارتمت أمي فوق السرير تتأوه من آلامها بعد أن قضت وقتا وجسدها متكور تحته، وذهبت جدتي لتفقد أبي، فوجدته ما يزال في الشرفة وفي يديه أعواد الخشب، ممدد على الأرض غارقا بدمه إثر شظية داهمته واستقرت في رأسه ولم تمهله حتى يختبئ”.
وفي المخيم تلتقي رغد ببعض النازحين الذين جاءوا من التواهي [وكنتُ وعائلتي بينهم]. وتضمن سردها بعض شهادات النازحين، وتذكر أن إحدى النازحات عرضت عليها صور بعض ضحايا الحوثة، وتعلق: “ودفعت إليّ الهاتف لأنظر فيه، وكدت أن أتقيأ مما رأيت من صور لجثث ممزقة مضرجة بالدماء، وأخبار تتحدث عن أكثر من ثمانين مواطنا ومائة وستون جريح أغلبهم من النساء والأطفال، ضحايا قصف المليشيات الحوثية للفارين من جحيمهم عبر القوارب في مرسى مدينة التواهي وكانوا متوجهين إلى البريقة في السادس من مايو قبل أن تجعلهم قذائف الحوثيين أشلاء على أرض المرسى. يا لوحشيتهم، ستظل هذه المذبحة وصمة عار على جبين الحوثيين وأعوانهم، مهما قدموا من قرابين الغفران، وتلفعوا بثياب الملائكة”. ص55 وتضيف: “لا أحسن المواساة في مثل هذه الظروف، اكتفيت بالربت على كتفها، قائلة: أنت من التواهي إذن؟ أجل خرجت منها رغما عني أنا وأولادي الأربعة، بعد أن استشهد زوجي يوم أمس وهو يقاتل إلى جانب اللواء علي ناصر هادي والعميد ناصر السعدي ورجال المنطقة الرابعة ومعهم شباب المقاومة في معركة حامية في حجيف مدخل التواهي – وهم يصدون ضربات المليشيات.” ص56
ثم تسرد رغد نتفا من أحداث تحرير عدن قائلة: “في ليلة ٢٧ رمضان الموافق ١٤ يوليو والمساجد تلهج بالدعاء، سرت في جسدي قشعريرة أحسست أن الملائكة تسير معنا، تحيط بنا، كان الناس يتهامسون ولم أفهم ما يحدث، تلفت حولي، لا شيء سوى وجوه أظناها التعب والترقب، مشيت من شارع مسافة طويلة لأصل إلى مخبز للروتي لعلي أحظى بشيء للسحور، فجأة سيارات عليها شباب مسلحون يطلقون الرصاص في الهواء، شعرت بالخوف هل انتقلت المعارك إلى هنا؟ تبدل شعور الخوف إلى نشوة كبيرة وفرح حين امتزجت الهتافات مع تكبيرات المساجد الله أكبر الله أكبر ” “عاش الجنوب الحر عاش الجنوب الحر ” أدركت أن هؤلاء شباب المقاومة الجنوبية، هل تحررنا؟ هل انتهت الحرب؟” الصبية يجرون وفي أياديهم علم الجنوب يرفرف في قلوبهم قبل أياديهم، ناولني أحد الصبية واحدا، لم أحبه كحبي له في هذه اللحظة، قبلته دون تفكير… إنها معركة السهم الذهبي، انطلقت من رأس عمران بقيادة اللواء الركن أحمد سيف المحرمي، وصناديد القوات الجنوبية، من كل مديريات عدن دون تمييز، ومن أبطال المدد القادمين من الضالع ويافع وردفان وغيرها، بسند من قوات التحالف العربي لتحرير التواهي والمعلا وكريتر وخور مكسر من المليشيات الحوثية القادمة من كهوف الظلام. كانت الأعلام ترفرف في الأفق، والزغاريد والتكبيرات تملأ الأجواء، حتى الأطفال الصغار كانوا يشاركون في الاحتفالات، عادت الوجوه مشرقة بالبهجة والأمل، غمرت اللحظات الجميع بالسعادة والتفاؤل، ومذاق الحرية والتحرير”.
بعد ذلك تعود رغد لسرد نتفا من حياتها الخاصة، منها وفاة والدتها بعد صراع مع المرض، وتكتب: “جريت إلى خارج الحجرة وتكومت في زاوية بعيدا عن الجميع وشرعت بالبكاء، أحسست أن الموت قريب، قريب جدا لدرجة أنه جاء إلى بيتنا مرتين، ولكنه هذه المرة أرعبني، بل أرعبتني فكرة أن يذهبوا بأمي إلى المقبرة ويتركونها هناك ويعودون. أحسست حينها أن الحياة غير مفهومة ناهيك عن الموت”. ص 62
ثم تسرد رغد تخرجها من الجامعة على النحو الآتي: “تخرجت من الجامعة بشهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال، وبعد تخرجي لم ألبث كثيرا حتى حصلت على وظيفة في إحدى الشركات، كنت متفوقة، ولكن ليس هذا كافيا لأحظى بهذه الوظيفة فجمالي وجرأتي كانا عرابين لشهادتي وتخصصي، كنت أتوق إلى الاستقلالية من كل النواحي”. وبعد فترة قصيرة سافرت رغد للعمل في فرع الشركة بالقاهرة، وعاشت عددا من الأحداث هناك، وتزوجت وطلقت وتزوجت ثانية وعادت مع زوجها إلى عدن.
ومنذ عودة البطلة إلى عدن يستمر السرد بصيغة الغائب، ويذكر الراوي أنها فضلت بعد استقرارها في مدينتها عدن العمل في مجالي الإغاثة والإعلام، ويبين الراوي ان حرب الحوثة ضد الجنوب لم تتوقف، ويرصد ما شاهدته تغريد في مشافي عدن، ويكتب: “التحقت رغد بالعمل في منظمات الإغاثة العاملة في عدن، وما أكثرها بعد الحرب، واستهواها إلى جانب ذلك العمل الإعلامي، فظل حبرها حارا لا يبرد، لسان حال كل مؤمن بقضية الجنوب وحقه في تقرير مصيره، وفي يوم بلغها خبر وصول شهداء وجرحى إلى مستشفى الجمهورية، الكائن في خور مكسر، وذلك من جراء مداهمة غادرة من مليشيات الظلام، لجنود القوات الجنوبية المرابطة على ثغر من ثغور الجنوب، فأسرعت إلى هناك لتحيط بالخبر، هالها ما رأته في ممرات المستشفى، أمهات يتهادين وقلوبهن منفطرة على أبنائهن الذين لا يعلمن هل هم في عداد الشهداء أم الجرحى؟”.
وفي ذلك المستشفى تقابل رغد زوجها طارق، “لمحته في الداخل ممددا على سرير أبيض وملابسه العسكرية قد احمرت من دمائه، وقفت أمامه، اختنقت الحروف في حنجرتها”. ودار بينهما هذا الحوار المليء بالدلالات، الذي يختتم به الراوي السرد:
– طارق؟! كان ينظر إليها قبل أن تلمحه، ابتسم محدقا فيها: نعم طارق مستغربة من وجودي مع الجرحى؟
-آخر ما كنت أتخيله حمدا لله على سلامتك!
أراد أن يبدد الحيرة التي قرأها في عينيها، فأخبرها أنه التحق بالجبهة منذ أشهر، فزادت حيرتها. وقالت له:
-في الحرب جنحت إلى السلم والهروب، وفي السلم ذهبت لتتجند؟
-أي سلم؟ الناس تظنه سلما وتظن الحرب قد انتهت وانغمسوا في حياتهم اليومية، لكن رحى الجبهات ما زالت تدار، ولولا المرابطين من أبطال الجنوب لعادت المليشيات تعيث بمدننا فسادا وعنجهية”.
-تغيرت كثيرا …
-أردت أن أفعل شيئا يعيد لي إحساسي بالحياة.
-كدت أن تموت.
-شرف لي أن أكون شهيدا. أصبحت مؤمنا بالحرب. من براثن الحرب ننتزع السلام. خلقنا لنعيش أحرارا”. ص215
شارك هذا الموضوع:
Tweet
المزيد
Telegram
معجب بهذه:
إعجاب
تحميل...
مرتبط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news