القرآن الكريم كضمانة قومية وسياسية وثقافية

     
المشهد اليمني             عدد المشاهدات : 37 مشاهده       تفاصيل الخبر
القرآن الكريم كضمانة قومية وسياسية وثقافية

إلى جانبِ كون القرآن الكريم كتابَ روح وهداية، وموجها عام لحياة البشرية، فهو ــ أيضا ــ ضمانةٌ قومية وسياسية للأمة العربية على وجه التحديد، كما هو كذلك للأمة الإسلامية جمعاء.

ما يغيب عن ذهنية البعض أن القرآن الكريم حين تنزل في عهد الرسالة كادت العربُ ــ آنذاك ــ تفقد وحدتها اللغوية، بحكم تعدد اللهجات التي اتسعت حتى لكأن كلَّ لهجة لغةٌ مستقلة، أو شبه مستقلة، كما سنبين، وهي ظاهرة طبيعية بين اللغات؛ إذ تتفرع لهجاتها وتتعدد، كما هو الشأن مع اللاتينية التي تتحدرُ جميعُها من أصل واحد، وإن كانت غير بعيدة عن السامية القادمة من بلاد الشرق، حسبما يفترض الكثير من الدارسين، وحسبما تشي بعض أبجديتها المتوافقة مع الأبجدية العربية، وهذا موضوع يطول شرحه..

قديما ــ ومع بداية عصر الإسلام ــ كاد الاغتراب اللغوي يفرض سطوته على اللسان العربي، إلى حد قول أبي عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا" بصرف النظر عن الجدل المستعر الذي أثاره المستشرق "مارجليوث"، وتبناه ــ عربيا ــ تلميذه طه حسين، دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتقصي، لاستقراء الفكرة من جميع جوانبها، وهي إحدى زلاته، مع أن الأديب أحمد محمد الشامي قد أشار في كتابه تاريخ اليمن الفكري إلى أن الدكتور طه حسين قد عدل عن فكرته مؤخرا، إلا أننا لم نجد ما يؤكد ذلك عمليا من طه حسين نفسه.

وللقارئ أن يتخيل أن هذا الاغتراب اللغوي داخل الجزيرة العربية نفسها، على الرغم من وحدتها الجغرافية والثقافية والاجتماعية والتجارية يومها، فما بالك بالحال مع أطراف الجزيرة في الشام وبلاد المغرب ومصر آنذاك؟!!

وإلى جانب هذه المقولة الشهيرة التي انطوت على كثير من الجدل، فثمة دليل أكثر صراحة، وخالٍ من أي جدل، وهو حديث أبي هريرة لما قدم من دَوْس عام خيبر، لقي النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وقد وقعت من يده السكين، فقال له: "ناولني السكين"! فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة، ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ؛ فكرر له القول ثانية وثالثة، وهو يفعل كذلك، ثم قال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: "نعم"! فقال: أو تسمى عندكم سكينًا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ، ودَوْس بطن من الأزد. وهم عرب أقحاح، وبينهم وبين قريش صلة وقربى، ومع هذا لم يكونوا يعرفون معنى "السكين".!

باختصار.. كان القرآن الكريم هو المنقذ الذي وحد لغات الناس، وقد كانت على شفا التفرق. وبتوحيد لغتهم، ــ ومع الدين الجديد ــ توحدوا سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فبنوا حضارة، وكان لهم من المجد ما لهم. وكل ذلك بفضل الكتاب الجديد "القرآن الكريم" الذي وحد ألسنتهم، كما وحد عقولهم وعقائدهم.

وقد وضح الأصفهاني في موسوعته اللغوية "الأغاني" كثيرا من مظاهر هذا الاختلاف وعوامله، كالكشكشة والكسكسة والطمطمانية والغمغمانية واللخلخانية، وغيرها، إلى حد أن بعض اللهجات العربية قد مسّت قواعد اللغة نفسها، المتعارف عليها، معنى ومدلولا، لا ظواهرها الصوتية أو تغيراتها الصرفية فحسب؛ ولابن جني في "الخصائص" أيضا ما له، وكثير من كتب اللغة وتاريخها، وخاصة تاريخ آداب العرب للرافعي.

والدارس للغة العربية بعمق وتبحر يدرك كمَّ ومقدار الألفاظ العربية "القاموسية" التي لم ترد في القرآن الكريم، والتي أسقطت تماما من تعاملاتنا اليومية، وصارت غريبة علينا اليوم، كما صرنا عنها غرباء، ومن يحاول أن يتكلم بها اليوم عُـدّ من المتحذلقين؛ بل لن يفهمه أحد، وسيكون حاله كمن يتكلم بلسان أعجمي بين قومه. وأكاد أجزم اليوم أنه لولا القرآن الكريم لفقدنا بلدانا عربية كثيرة، كمصر وبلاد المغرب، وأطراف العراق والشام؛ بل لن يفهم الجنوبي لغة الشمالي من الجزيرة العربية نفسها. وللمُنظِّر العروبي المعروف الدكتور ساطع الحصري كلام مهم فيما يتعلق باللغة ودورها في الوحدة بين الناس؛ حيث اعتبر التاريخ المشترك واللغة ركائزَ الهوية لأي أمة، خاصة اللغة التي رآها أهم من التاريخ في صياغة الشخصية وتشكيل هويتها. فاللغة كما يرى "تؤثر في التفكير تأثيرا عميقا، وتسدده، وتوجهه توجيهًا خاصا، فاللغة القومية تعتبر بمثابة الوعاء الذي تتشكل به، وتُحفظ فيه، وتنتقل بواسطته أفكار الشعب. إن لغة الآباء والأجداد مخزنٌ لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتاريخ والفلسفة والتقاليد والدين، فقلبُ الشعب ينبضُ في لغته، وروحه تكمن في بقاء هذه اللغة".

ما تنبغي الإشارة إليه هنا، في القواميس وصناعتها، فإنها بقدر ما خدمت اللغة وحفظت كثيرا من معانيها، فهي أيضا ــ ومن جه وآخر ــ قد جنت جناية كبرى على جزء منها، من خلال ما تم نسيانه، أو تناسيه، ولم يتم تضمينه أو الإشارة إليه، وما لم يتم تضمينه القواميس ربما أكثر، خاصة من لغة الجنوب، أهل الإعراب الأوائل حسب إشارة حسان بن ثابت، شاعر الرسول، إلى حد اعتقاد البعض أن أي لفظة لم ترد في أي معجم من معاجم اللغة ليست عربية، ولا يعتد بها. وهو وهْـمٌ أساسه التعصب، أو الجهل؛ لأن لغة قريش هي اللغة الجامعة للعرب بعد الإسلام؛ لكنها لم تكن الوحيدة. وهنا كلام قد يطول شرح تفاصيله. وللمستشرق "بروكلمان" كلام مهم في "تاريخ الأدب العربي".

والواقع إن العولمة اليوم تفرض على الأمة العربية صياغة استراتيجية جديدة للغتها، كجزء من الحفاظ على هويتها الثقافية والتاريخية، ولئلا تنجرف الشعوب الضعيفة في متاهات وسراديب العولمة، ولن تجد أفضل من القرآن الكريم أداة توحيد وتوحد يحفظ للأمة هويتها وثقافتها الذي حفظها في القديم، وقادر على أن يحفظها اليوم، وفي الغد. فاللغة هي الوعاء الذي يحفظ للأمة هويتها وثقافتها، كما أشرنا آنفا، وبين يدينا نموذج حيٌ اليوم، وهو الأكراد ــ الهوية المغدور بها ــ الذين استطاعوا الحفاظ على هويتهم وثقافتهم من خلال الحفاظ على لغتهم الكردية على الرغم من المؤامرة الكبيرة على الأكراد، وعلى الرغم من تفرقهم في أكثر من دولة عربية وغير عربية.

ختاما.. لغتنا اليوم تعاني الضياع، ولاستعادة دورها الريادي يجب أن تكون هناك استراتيجية عربية كبرى للاضطلاع بالدور السياسي والقومي للغة العربية، من خلال الاهتمام بكتاب الله عز وجل، ومن ذلك مدارس تحفيظ القرآن الكريم التي يجب أن تُدعم، ليس محليا فحسب؛ بل وعلى كل الشطوط الجغرافية المحيطة بالعرب، كشرق أفريقيا وشمال العراق "تركيا وإيران" وشطوط البحر الأبيض المتوسط كاملة.. فلا شيء يفتق اللسان ويحفظ الفصاحة كالقرآن الكريم، حفظا وتجويدا وتفسيرا؛ ذلك أن القرآن الكريم قد ارتقى باللغة العربية من لغة مبارزة شعرية معهودة عن العرب قبل الإسلام، إلى لغة فقه وتفسير ودين وفلسفة واجتماع، زادها الإسلام انتشارا وتمددا، فأثرت وتأثرت بما حولها من اللغات الأخرى، وهو دليل مرونتها واتساعها ورحابتها. وهي وإن كانت لغة أدب بالمقام الأول، فهي أيضا لغة علم، تستوعب كل جديد وتحتوي كل اكتشاف.

وقد ذكر المفكر العروبي الكبير شبلي العيسمي في كتابه المهم "عروبة الإسلام وعالميته" أنه مع امتداد اللغة العربية خارج المحيط العربي امتدت إليها الثقافة العربية، وتكونت لديها مشاعر التقارب والتعاطف مع العرب، كما أنها وسعت دائرة العروبة بين القبائل والأقوام الكثيرة التي عاشت في الأرض العربية على امتداد الوطن العربي الكبير، بعد أن أصبحت لهم لغة التخاطب والثقافة والعقيدة.

Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

جريمة بشعة تهز أركان العاصمة اليمنية صنعاء (صورة)

صوت العاصمة | 3516 قراءة 

شباب صنعاء يطلقون شرارة التغيير: حركة رفض مدنية تواجه القمع الميليشياوي في ذكرى الثورة.

المشهد اليمني | 2286 قراءة 

إعتبارا من الليلة.. تخفيض أسعار المشتقات النفطية

عدن تايم | 2081 قراءة 

المؤتمر يحذر منتسبيه من هذا الأمر (بيان)

اليوم السابع اليمني | 1817 قراءة 

المليشيا تلغي احتفالات "26 سبتمبر" رسميا (وثيقة)

العربي نيوز | 1617 قراءة 

عاجل ..انفجارات عنيفة تهز تهز العاصمة الإيرانية طهران

وطن الغد | 1407 قراءة 

تعميم هام للبنك المركزي بصنعاء

نيوز لاين | 1334 قراءة 

تحذير من الانتقالي بشأن "26 سبتمبر"

اليوم السابع اليمني | 1311 قراءة 

المؤتمر الشعبي يلغي احتفالات "26 سبتمبر" (بيان)

العربي نيوز | 1173 قراءة 

تحرك عسكري يمني بريطاني فرنسي ضد الحوثيين

المشهد اليمني | 1094 قراءة