ذكرنا في الحلقة الماضية صيغ التشهد عند الصحابة –رضوان الله عليهم- كما علمهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، دون أي ذكر لما تسمى بالصلاة الإبراهيمية ملحقة بالتشهد الثاني، كما عند كثير من الأئمة والعلماء، بعد عصر التابعين.
كما أوردنا صيغ الصلاة على النبي عند البخاري ومسلم، وما لحق بهما من ذِكْرِ (الآل) فيها..
في هذه الحلقة سنورد صيغ الصلاة على النبي، كما عند الشافعي وأحمد بن حنبل –رحمهما الله- اللذين ذهبا إلى وجوب الصلاة على النبي في التشهد، ملحقين ما يسمى (الآل) فيها، مستندين في ذلك إلى بعض الأحاديث الواردة في ذلك، والتي عليها بعض المآخذ والملاحظات، وسنفصل فيها لاحقاً –إن شاء الله.
الصلاة على النبي و(الآل) عند الشافعي
حدد الشافعي –رحمه الله- في كتابه (الأم) باباً أسماه (باب التشهد والصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم-)، وكذا في مسنده، أورد فيه حديثين؛ الأول منسوب إلى أبي هريرة، والثاني إلى كعب بن عجرة، في كيفية الصلاة على النبي بعد التشهد. صحيح أن الشافعي ذكر وجوب الصلاة على النبي في التشهد بشكل عام دون أن يسميها (الصلاة الإبراهيمية)، لكنه أورد صيغتها التي تذكر فيها (الآل) وحدد مكانها بعد التشهد، وفسرها في سياق أنها هي الصيغة المعتمدة عن النبي، وكذلك في صلاة الجنازة، وسنبين تفاصيلها والمآخذ عليها لاحقاً –إن شاء الله.
الحديث الأول:
أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه) قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني صفوان بن سليم، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة: أنه قال: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ يعني في الصلاة [يعني في الصلاة زيادة وتساؤل من الشافعي]. قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، ثم تسلمون علي"(الأم: ج2/270، رقم الحديث (245)، وفي مسند الشافعي ترتيب سنجر: ج1/285، رقم الحديث (257)).
ولم يرد هذا الحديث عند بقية المحدثين، عن أبي هريرة، وما هو مشهور هو عند كعب بن عجرة، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي حُمَيد الساعدي بصيغة أخرى.
الحديث الثاني:
أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول في الصلاة: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد"(الأم: ج2/271، رقم الحديث (246)، وفي مسند الشافعي ترتيب سنجر: ج1/285، رقم الحديث (258)).
وفي صيغة أخرى، أورد الشافعي، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني سعد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، (عن كعب بن عجرة) -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول في الصلاة: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"(- بدائع المنن: ج2 – صـ92، رقم الحديث 270، مسند الشافعي: ج1/ صـ280، رقم الحديث 178، تحقيق وتخريج د رفعت فوزي عبدالمطلب، وفي ترتيب سنجر: ج1/ صـ285، من باب (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) رقم الحديث 258. شركة غراس – الكويت- ط1 1425هـ - 2004م). فهل كان حفيد كعب بن عجرة يحتاج للرواية عن جده إلى وسيط بينهما، وهو ابن أبي ليلى، وقد كان أولى بالأخذ عنه من ابن أبي ليلى؟!
ونلاحظ هنا أن كل الروايات التي أوردها الشافعي، في صيغ أحاديث الصلاة على النبي، زاد فيها لفظ (في الصلاة، أو إذا صلينا في صلاتنا) وكأنه تطويع أو تفسير وتأييد لما ذهب إليه من وجوب الصلاة على النبي في التشهد!
ولم يورد البخاري ولا مسلم ولا أحمد ولا النسائي هذه الصيغة، كما هي عند الشافعي؛ فقد وردت عندهم الصيغة بدون عبارة (كان يقول في الصلاة)، رغم أن الراوي ابن أبي ليلى والمروي عنه الصحابي كعب بن عجرة عند الجميع.
فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم والنسائي والترمذي هذا الحديث عن كعب بن عجرة كالتالي:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا –أو: عرفنا- كيف السلام عليك، فكيف الصلاة؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على [آل] إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"(تفسير ابن كثير: ج6 – صـ458).
قال البخاري: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد، حدثنا أبي، عن مسعر، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: قيل: يارسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، [كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. الله بارك على محمد وعلى آل محمد] كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"(تفسير بن كثير: ج6 – صـ458، وصحيح البخاري برقم 4797).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا هشيم بن بشير، عن يزيد بن أبي زياد، حدثنا عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب: (56)، قال: قلنا: يارسول الله، قد علمنا السلام، فكيف الصلاة عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد". وكان عبدالرحمن بن أبي ليلى يقول: وعلينا معهم. ورواه الترمذي بهذه الزيادة(ابن كثير: ج6 – صـ458).
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي(أغلب علماء الجرح والتعديل يعدونه في الثقة، غير أن جلال الدين السيوطي، في طبقات الحفاظ، قال: وَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم، وَقَالَ أَحْمد فِي أَحَادِيثه شَيْء يرْوى أَحَادِيث مَنَاكِير مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَة وَقيل سنة عشْرين وَمِائَة (تراجم عبر التاريخ)، عن محمد بن عبدالله بن زيد بن عبد ربه، عن أبي مسعود البدري، أنهم قالوا: يارسول الله، أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..." وذكره (ابن كثير: ج6 – صـ460).
قال ابن كثير: ورواه الشافعي -رحمه الله- في مسنده عن أبي هريرة، بمثله، ومن هاهنا ذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته. وقد شرع بعض المتأخرين من المالكية وغيرهم يشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة، ويزعم أنه تفرد بذلك، وحكى الإجماع على خلافه أبو جعفر الطبري، والطحاوي، والخطابي، وغيرهم، فيما نقله القاضي عياض"(بن كثير: ج6 – صـ460).
قال الشافعي (رضي الله عنه): فعلى كل مسلم وجبت عليه الفرائض، أن يتعلم التشهد والصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومن صلى صلاة لم يتشهد فيها ويصلي على النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهو يحسن التشهد، فعليه إعادتها، وإن تشهد ولم يصل على النبي –صلى الله عليه وسلم-، أو صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يتشهد، فعليه الإعادة، حتى يجمعهما جميعاً. وإن كان لا يحسنهما على وجههما، أتى بما أحسن منهما، ولم يجزه إلى بأن يأتي باسم تشهد وصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-. وإذا أحسنهما، فأغفلهما، أو عمد تركهما، فسواء، وعليه الإعادة فيهما جميعاً (كتاب الأم للشافعي: ج2/271).
...... يتبع
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news