لقد كانت السلطة السياسية والتحكم بإدارتها بحنكة وبراعة ولازالت هي قطب الرحى في تاريخ الحضارة البشرية كلها. ولا شيءٍ ابسط ولا اعقد واخطر منها ابدا. انها الضرورة الحاضرة الفورية المباشرة في كل زمان ومكان يوجد في الإنسان إذ ظلت السياسة على مر الأزمان هي الزمن الذي لا يمر بمعنى أن الوجود السياسي للناس في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية، مثله مثل بنية التزاوج والتدين والقرابة. وكل لحظة من لحظات التاريخ السياسي والديني للمجتمعات تمثل الدرجة الصفر؛ وكل جيل يمسك بالخيط من أوله، ويردد في الوقت ذاته أنه يبتدع هيستيريات تحقيق الذات، والهلوسات الجماعية، والفصامات الطائفية، والهذيانات الدفاعية، والأخرى التفسيرية… وكما أن المراهق يتعلم المضاجعة دون أن يعلِّمه إياها أحد، ولكن دون أن يمارسها أفضل مما مارسها جدوده، فإن كل حقبة اجتماعية تعاود اختراع السياسة، وكأنها لم تكن قط، هي هي سياسة كل زمن، الإشكالية بصورة جوهرية. ويرى رجيس دوبريه أن هذه “القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة، وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها، بنية التكرار” وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي بالطبع والتطبع ! وهكذا يمكن القول إن علاقة الإنسان بالإنسان ظلت راسخة النسيج ثابتة النسق وكل ما طرى عليها طوال ملايين السنيين لا يعدو بان يكون أكثر من ديكور اسمه الحضارة والتحضر تم اكتسابه اكتسابا بقوة السلطة والتربية والقانون وحينما تنهار السلطة والقانون في مكان من مجتمعات الإنسان يعود الناس إلى سجيتهم الحيوانية الطبيعية الأنانية الفطرية في حالة حرب الجميع ضد الجميع! فأول الحضارة هو الإحساس بالخوف من عاقبة الاعتداء على الآخرين ومن الضرر الذي يصيب الإنسان من اعتداء الآخرين عليه وهو الخوف الذي نعبر عنه بالضمير والوازع ومخافة الأذى والضرر جراء القيام بالذي صار اسمه بعدما لا يحصى من الزمن والخبرات والتجارب حراما وعيبا وممنوعا ولا يجوز. والسياسة هي الزمن الذي لايمر! بمعنى أنها المجال الوحيد الذي ليس بمقدور أحد تجاوز استحقاقها أبدا، والسياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية: (المناخ والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والزلازل والبراكين …إلخ) حسب فاليري
تداعت هذه الأفكار إلى ذهني وانا اقرأ الخبر العاجل الذي جاء من الولايات المتحدة الأمريكية بشأن ترشيح كامالا هاريس لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي بدلا عن بايدن الذي إعلان البارحة انسحابه لصالحها وهي البالغة من العمر 59 عاما هي ابنة لأب جامايكي وأم هندية، وكانت أول شخص أسود وأول امرأة تشغل منصب المدعي العام لولاية كاليفورنيا، كما كانت أول عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي من أصول جنوب آسيوية. وهي الآن أول امرأة وأول سوداء تتولى منصب نائب الرئيس فما الذي يعني ذلك من منظور الفلسفي؟ انه يعني إن السياسية لم تعد على حل شعرها بل صارت مقعدة في مجال لعبتها الخاصة ومكتفية بقواعد ممارستها لمن اراد الخوض فيها. فالممارسة هي الجزء المختفي من جبل الجليد؛ جليد الوجود التاريخي التراكمي لعلاقات القوة واستراتيجياتها المعلنة والمضمرة فالممارسة ليس مثالاً غامضاً أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركاً خفياً بل هي ما يفعله الناس حقاً وفعلاً في عالمهم المعيش فالكلمة (الممارسة) كما يقول الفرنسي بول فين ” تعبر بوضوح عن معناها وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد” فتلك هي وظيفة السياسة بوصفها علاقات قوى إذ “طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي” إنها تخفيه، ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكة التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة وفضاءات متعددة وأسطح مختلفة ولكن هنا سكة حديد واحدة مهيأة لسير جميع القطارات” تلك السكة هي تاريخ القوة واحتدامها في كل لحظة من لحظات سيرورة الحياة الاجتماعية للناس الساعيين لتحقيق مصالحهم الحياتية في عالمهم المحكوم بعلاقة القوة والهيمنة والتنافس والصراع الدائم المستمر بين الافراد الجماعات والشعوب والحضارات. نعم الناس الأحياء هم الذين يصنعون التاريخ ولكنهم لايصنعونه على هواهم بل في ظل شروط معطاة لهم سلفا من ماضيهم وممكناته المتاحة. فكما إن أهل المدينة يتعلمون فن السباحة في شواطئ البحار القريبة أو في المسابح العامة التي يتم إنشاءها لهذا الغرض ، فكذلك يفترض أن يتعلم الناس فن السياسة وقواعد لعبتها الخاصة في المدينة بالميدان العام المباح لجميع الراشدين ذكورا واناثا بدرجة متساوية من الأهلية والفرص.
في البلاد العربية وفي ظل النخب السياسية الاستبدادية لم تمنح السلطات السياسية هذا الحق الطبيعي لرعاياها بوصفهم مواطنيين أحرارا كما هو حال الدول الديمقراطية الحديثة في الغرب والشرق بل أخضعتها بقوة النار والحديد لتحقيق مشيئتها، والنتيجة هي هذا التخبط والخراب التي بلغته المجتمعات العربية اليوم, إذ باتت اليوم تهيم على وجوهها في دوامة مهلكة من الانفجارات الغاضبة العنيفة والهستيريا الجمعية المسدودة الآفاق!
من المهم جدا التمييز بين الوجود السياسي للناس وبين ممارسة اللعبة السياسية ذاتها إي بين السياسي والسياسية يرتبط الشأن السياسي للناس بحاجتهم إلى العيش المشترك في مؤسسة مدنية منظمة بالدستور والقانون وفقا لمبدأ قوة الحق لا حق القوة. وقوة الحق تعني أن لكل مواطن يعيش في مجتمع سياسي حق متساوي بالأهلية والقيمة والجدارة مع اشباهه من المواطنين بغض النظر عن مواقفه واتجاهاته الايديولوجية فالوجود السياسي للناس هو الأمر الجوهري في تأسس الدولة الوطنية العامة ولا شأن له بالشعارات والرايات والأسماء والصفات الايديولوجية المختلقة التي يطلقها الناس على انفسهم والآخرين من قبيل؛ وطني وغير وطني جمهوري وغير جمهوري وحدوي وانفصالي الرعاة والرعايا السادة والعبيد ..الخ تلك هي فقاعات تتصل باللعبة السياسية المفترضة بعد تأسيس المجال السياسي الذي كان يجيب أن يحتوي كل المواطنين على درجة متساوية من القيمة والجدارة والأهلية ولا فضل لاحد على أحد في ذلك ابدا فالمواطنة حق وليست مكرمة والعيش المشترك في دولة جامعة للمواطنين القاطنين على الأرض المتعينة لا يتحدد بانتماءاتهم الأيديولوجية ومواقفهم السياسية والسؤال ليس هو من هو الوطني ومن هو غير الوطني؟ بل هو كيف يمكن للمواطنين أن يعيشون في وطنهم بكرامة وأمن وسلام؟ وبدون هذا التمييز الدقيق بين السياسي والسياسة تضيع الشعوب والأوطان والحالة اليمنية شاهد حال ومآل. فمن هو الوطني اليوم في اليمن ومن هو الوحدوي ومن هو الجمهوري ومن هو اليمني؟! اسئلة تتصل بالسياسية بعد خراب البيت السياسي الجامع ومن ثم فلا قيمة لها ولا اهمية ولا يمكنها أن تساعد على لملمة الأزمة وجمع الشتات وتدبير الحياة المشتركة للجميع في دولة ذات سياسية. ربما كانت الوحدة اليمنية فرصة سانحة لتمكين المشترك السياسي اليمني بين الجنوب والشمال وبسبب قصر نظر القوى التقليدية المهيمنة تحولت إلى حرب غاشمة ثم تناست إلى ما نراه اليوم من سقوط الجمهورية والدولة والسيادة وعودة الملكية الإمامة وضياع الوحدة وتمزق البلاد والعباد والارتهان إلى قوى خارجية. بينما السياسة هي لعبة قوى وصراع محتدم بين أطراف المصالح والاستراتيجات المتنافسة مثلها مثل الألعاب الأولمبية نسبيا على الاقل في صورتها العامة، فيها الغاية تبرر الوسيلة ، في إطار قواعد اللعبة المعنية ، والسياسي الماهر مثل الرياضي الماهر هو من يكسب النتيجة النهائية ، ومن السذاجة الطفولية ان يعيد المهزوم سبب هزيمته الى ما فعله خصمه ، عدوه ، منافسه , مباريه ,مقابله ..الخ. كم أصاب بالذهول! حينما اسمع بعض من يعتقدون أنفسهم ( قادة وساسة ) حينما يحملون اعداءهم او خصومهم مسؤولية هزيمتهم وفشلهم السياسي المهين ولا اعتقد ان مثل هذا يمكنه ان يقال في مجالات الالعاب التنافسية الاخري في مختلف فنون الرياضة بما في ذلك رياضة النزال بين الفرسان حتى الموت كما نشاهده في افلام الكابوى , رعاة البقر الامريكية , ذلك لاني اعلم كما تعلمون انتم اعزائي عزيازتي بان مثل هذا الكلام او الادعاء يقع خارج حدود العقل والحس السليم _ اقصد منطق الالعاب التنافسية كلها تقريبا بما في ذلك اللعبة السياسية العالية الشحنة التنافسية الصراعية حتى الموت , حيث( ما فيش يا امة ارحميني ) كما يقول المثل العدني. اذ ان وظيفة خصمك او عدوك او منافسك السياسي وغايته الجوهرية هي ان يهزمك وينتصر عليك ويغلبك ويسحقك ان مكنته منك او تمكن هو باي طريقة من الطرق , ذلك هو المعنى والمغزى الاساسي من فكرة اللعبة التنافسية والصراعية السياسية بالحرب والسلم وهنا يمكن لنا فهم قول الالماني كفرزفون في كتابه ( فن الحرب ): (الحرب هي سياسة بوسائل اخرى ) من اسمها , اقصد السياسة هي ( لعبة قوى ) لا مجال فيها للشفقة والرحمة والتمني واللامبالة والطيبة والسذاجة والبراءة والدواعة والعواطف والانفعالات والكلام الفارغ الذي لا يودي ولا يجيب , هناك ثمة عدو , خصم يتربط بك يريد يصرعك ويهزمك ويكوش عليك باي طريقة من الطرق الممكنة طبعا بمعنى يمكنه فعلها يستطيعها مهما كانت بشاعتها ولا اخلاقيتها كما اكد الفيلسوف السياسيالايطالي بحق نوقولاي ميكافللي في كتابه الشهير ب الامير الذي يعد انجيل السياسة والسياسيين في كل العصور بلا منازع اذا ان تاريخ العالم من آدم حتى اليوم يمر عبر درب ميكافللي السياسي الواقعي العقلاني حد القساوة, ( في الحرب انا مقابل عدوي وفي السياسة انا مقابل خصومي ) حسب دوبرية هذه سنه من سسن التاريخ وحقيقة من حقائقة لا خير ولا شر بل هي لا يمكن الا ان تكون كذلك بطبيعتها الجوهرية وضرورتها الحياتية الاجتماعية السياسية والا ما الذي يمكن ان يكونه الخصم او العدو السياسي ,وما الذي يمكن توقعه منه ما دمت خصمه وما دام خصمك بالضرورة والموقف والمصلح والاهداف والرغبات والغايات . الخ
اذ عليك ان تفهم منذ البدء انه لا يرضعك أو يطعمك أو يداريك ويواسيك ويرحم ضعفك ويشفق عليك , والا فانت حمارا طيبا لا تصلح للسياسة مطلقا يا صديقي وقد قيل حقا (ان الطريق الى جهنم السياسة مفروش بذوي النوايا الطيبة ) ومن لم يفهمها على هذا النحو فمن الخير له ان يخجل ويصمت ويداري خيبته بأسباب تحفظ كرامته الآدمية ، وهيبته المعنوية . والنصر والهزيمة من الأحوال الإنسانية ولا عيب او باس في ان نهزم او نخفق في كسب النتيجة ولكن من المهين والمخجل والمثير للسخرية والقرف ان نحمل مسؤولية فشلنا خصومنا اللدودين كما يفعل بعض الأطفال الكبار !!! ومن العيب ان يبرر شخصا سياسيا فشله وخيبته بالقول: لقد حلمنا بعكس ما جرى، أو خدعنا أو زادوا علينا أو كما سمعت أحدهم يقول: كنت اظن الخير في الأخرين !!!! موقف مثل هذا يشبه موقف الراعي الذي منح كامل ثقته للذئاب وبعد ان اتت على خير ما لديه عاد ليولو لم اكن اتوقع انها متوحشة وماكرة على هذا النحو , لقد خدعتني!.
ختامًا أكرر للمرة الألف:
أن وجود السياسي في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية, مثل بنية القرابة, والأسطورة وهذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي, نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها, بنية التكرار؟ وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي. وقد اختلفت تعريفات السياسة, فالبعض يعرفها(بتسويس الأمر)أو ب(فن الحكم) أو (فن الممكن) أو (تدبير الشأن العام) والبعض يعرفها(بالخلافة أو السلطان أو الوازع أو تدبير الملك) حسب أبن خلدون وأخر يعرفها ب(العقد المدني أو الإرادة العامة) أو(طريقة الوصول إلى السلطة واحتكار القوة) أو (علاقات القوة والهيمنة) حسب ميشيل فوكو ..الخ. وإذا ما كان علينا صياغة تعريفاً إجرائيا لمعنى السياسة فيمكننا القول: بأنها تلك المؤسسة الجامعة ( مؤسسة المؤسسات) الدولة التي تحتكر حق استخدام القوة وتضطلع بتنظيم شؤون مواطنيها بوصفهم جمهوراً أو شعباً أو مواطنيين, يتمتع جميع إفراده بأهلية وقيمة واقعية واعتبارية متساوية في الحقوق الأصلية, وحماية بعضهم من بعض وتأمين حياتهم وصون سيادتهم بما يحقق استقرارهم ونماءهم وازدهارهم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news